مع تصاعد التوترات الأمنية والسياسية في ليبيا، تتجه الأنظار إلى قرار السلطات بالمنطقة الغربية، وعلى رأسها العاصمة طرابلس، لإطلاق حملة موسعة لترحيل المهاجريين غير النظاميين إلى بلدانهم الأصلية. هذا الإعلان الذي أتى من حكومة الدبيبة، المنتهية ولايتها، يعكس محاولة جديدة لمعالجة أزمة الهجرة التي طالما ألقت بظلالها على الوضع الداخلي المتأزم في ليبيا. ورغم هذا التحرك، لا تزال تفاصيل هذه الحملة غير واضحة، حيث لم تُحدد وزارة الداخلية المعنية ما إذا كانت ستستهدف المهاجرين المحتجزين فقط في مراكز الإيواء، أم أنها ستمتد لتشمل مئات الألوف من المهاجرين المنتشرين في مختلف أنحاء البلاد.
وزارة الداخلية بحكومة الدبيبة منتهية الولاية، أعلنت في بيان صحفي الأربعاء الماضي، أن الحملة الأمنية المزمع إطلاقها تأتي ضمن توجيهات من وزير الداخلية المكلف، عماد الطرابلسي، الذي يهدف إلى فرض سيطرة أكبر على الوضع الأمني في البلاد ومواجهة التحديات المتزايدة المتعلقة بالهجرة غير المشروعة. هذه الحملة قد تكون خطوة نحو فرض النظام وتطبيق القانون، إلا أن عدم وضوح تفاصيلها أثار العديد من التساؤلات. فهل تستهدف الحملة المهاجريين الذين يقبعون في مراكز الاحتجاز الرسمية فقط، أم أنها ستشمل أعداداً هائلة من المهاجرين غير النظاميين الذين يقدر عددهم بمئات الألوف، معظمهم يعيشون في ظروف غير قانونية أو يعبرون الحدود بهدف الوصول إلى الشواطئ الأوروبية؟
أشار أنطونيو فيتورينو، رئيس المنظمة الدولية للهجرة، إلى أن عدد المهاجرين المحتجزين في مراكز الاحتجاز الرسمية في ليبيا لا يتجاوز 5000 شخص. ورغم هذا الرقم، يرى مراقبون أن هذه الأرقام لا تمثل سوى جزء بسيط من العدد الحقيقي للمهاجرين غير النظاميين في البلاد، والذين يتواجدون في ظروف شديدة التفاوت، سواء كانوا من الذين يعيشون في الخفاء أو المحتجزين في سجون سرية. ففي نهاية عام 2023، قدرت المنظمة الدولية للهجرة عدد المهاجرين غير النظاميين في ليبيا بنحو 704 ألف و369 مهاجراً، 79% منهم رجال، و11% نساء، و10% أطفال. هذه الأرقام تعكس حجم التحدي الكبير الذي تواجهه جكومة الدبيبة في محاولتها للتعامل مع أزمة الهجرة.
منذ سنوات، تعمل السلطات الليبية بالتعاون مع الأمم المتحدة على إعادة المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية ضمن برنامج “العودة الطوعية”، الذي يوفر للمهاجرين فرصة العودة بشكل آمن وإنساني إلى دولهم. ورغم هذا الجهد، لا تزال ليبيا تشهد تدفقاً مستمراً للمهاجرين، حيث يحاولون العبور إلى أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط. وتتزايد الضغوط على ليبيا، كونها محطة عبور رئيسية للمهاجرين المتجهين إلى أوروبا، حيث تعاني البلاد من انعدام الاستقرار الأمني والسياسي الذي يسهم في زيادة أعداد المهاجرين ويعقد من جهود مكافحتها.
في مدينة بنغازي، انتهت مؤخراً فعاليات المؤتمر الأفريقي – الأوروبي حول الهجرة غير النظامية، والذي جمع بين مسؤولين حكوميين من قارتي أفريقيا وأوروبا، إلى جملة من التوصيات التي تسعى إلى معالجة هذه الأزمة من جذورها. من أبرز ما خرج به المؤتمر هو الإعلان عن إطلاق “صندوق لتنمية أفريقيا”، الذي سيسعى إلى معالجة الأسباب الجذرية للهجرة من خلال دعم التنمية الشاملة والتشغيل في القارة الأفريقية. هذا الصندوق الذي سيكون تحت إدارة مشتركة بين ممثلين عن القارتين، سيعمل على تعزيز الاستقرار والتنمية في البلدان التي تعتبر مصدراً رئيسياً للهجرة غير النظامية.
ليبيا التي تعاني من تحديات متعددة في ملف الهجرة غير النظامية، تواجه أيضاً نشاطات عصابات التهريب التي تسهم في زيادة تعقيد هذا الملف. ففي أواخر سبتمبر الماضي، نجحت قوة تابعة لإدارة إنفاذ القانون بالمنطقة الغربية في اقتحام وكر كان يستخدمه المهربون لتخزين وتجميع المهاجرين غير النظاميين، وذلك في منطقة شرقي مدينة مصراتة. كانت هذه العصابات تستعد لتهريب هؤلاء المهاجرين عبر البحر المتوسط إلى الشواطئ الأوروبية. وكشفت السلطات عن أوضاع غير إنسانية كان يعيشها المهاجرون الذين تم العثور عليهم في هذا الموقع.
في خطوة موازية، أعلن جهاز مكافحة الهجرة غير المشروعة في طرابلس عن ترحيل عشرات المهاجرين غير النظاميين من دول مثل نيجيريا ومصر وتشاد، بعد استخراج وثائق سفر مؤقتة لهم. ورغم أن هذه الخطوة تأتي في إطار جهود ليبيا للتخفيف من عبء الهجرة، فإن السؤال يبقى: هل يمكن لعمليات الترحيل وحدها أن تشكل حلاً دائماً لأزمة الهجرة؟ وهل ستكون هذه الحملات الأمنية، مهما كانت موسعة، قادرة على تحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع؟
مع استمرار تدفق المهاجرين إلى ليبيا، واستمرار تعقيدات المشهد السياسي والأمني في البلاد، تبدو أزمة الهجرة غير النظامية في ليبيا بعيدة عن الحل الفوري. وبينما تسعى السلطات الليبية، بالتعاون مع المجتمع الدولي، لإيجاد حلول تساهم في تخفيف الضغط على البلاد وتوفير ظروف إنسانية للمهاجرين، يبقى التحدي الأكبر هو معالجة الأسباب الجذرية لهذه الأزمة، التي تتمثل في الفقر والبطالة وعدم الاستقرار في دول المنشأ. بدون هذه الحلول المستدامة، ستظل ليبيا ساحة مفتوحة لأزمة الهجرة غير النظامية، وستظل تحديات ترحيل المهاجرين أكثر تعقيداً مع مرور الوقت.

