في خضم النزاعات المستمرة في ليبيا، يتجلى دور المفتي المعزول، الصادق الغرياني كصوتٍ معارضٍ دائمٍ لمجلس النواب والمنطقة الشرقية. وبينما يهاجم هذا المجلس ليلاً ونهاراً، متجاهلاً الفساد في حكومة عبد الحميد الدبيبة والميليشيات المسيطرة على المنطقة الغربية، يطرح التساؤل حول توجهاته السياسية ومدى تأثير هذه الفتاوى على الأوضاع الداخلية. الغرياني، الذي يُعتبر عالماً فقيهاً في الشريعة، يبدو كأنه يرى الأمور بعين واحدة، فيغالي في عداءه لمجلس النواب بينما يعمي بصره عن انتهاكات الغرب.
يواصل الغرياني هجومه المتواصل على مجلس النواب، منتقدًا القوانين التي يصدرها ووصفها بالجائرة والمشجعة على الفساد. يرى أن هذه القوانين تُمكن الفساد داخل ليبيا وتخدم مصالح شخصيات محددة على حساب العدالة والمصلحة العامة. في ظهوره على قناة “التناصح”، وتابعته “أخبار ليبيا 24“، أشار الغرياني إلى أن “الذي يشرع المكس” – إشارة إلى الضرائب التي يعتبرها غير شرعية – هو معتدٍ على حدود الله ومعصية عظيمة. يذهب إلى أبعد من ذلك ليصف مجلس النواب بأنه كيان خارج عن القانون، متهمًا رئيسه عقيلة صالح بالتلاعب في مصير البلاد.
إلا أن ما يثير الجدل هو أن هذا الهجوم يأتي في وقت يتجاهل فيه الغرياني تمامًا الانتهاكات الخطيرة التي تحدث في المنطقة الغربية، حيث تسيطر ميليشيات مسلحة على المناطق الحضرية وتمارس البلطجة والقتل بلا محاسبة. يبدو أن الغرياني يفضل توجيه سهام انتقاداته فقط نحو البرلمان، متجاهلاً الفوضى التي تعم الغرب الليبي.
على الرغم من الانتهاكات التي ترتكبها حكومة عبد الحميد الدبيبة، بما في ذلك سوء الإدارة وفساد المليشيات المتحالفة معها، يظل الغرياني صامتًا. هذا الصمت المدوي يُعدّ تجنبًا متعمدًا لانتقاد الحكومة الغربية، بل إن مواقفه تبدو داعمة لها بشكل ضمني، وكأنها محصنة من النقد. فعندما يتعلق الأمر بمناقشة الفساد الحكومي أو الفوضى في العاصمة طرابلس، يختار الغرياني التزام الصمت أو حرف النقاش باتجاه الهجوم على مجلس النواب.
من خلال هذه الانتقائية في الفتاوى والمواقف، يتضح أن الغرياني لا يقدم آراءه من منظور ديني بحت، بل تلوّنها مواقف سياسية منحازة. وهو ما يثير الشكوك حول مصداقية فتاويه، ويضع تساؤلات عن تأثير مصالحه الشخصية أو تحالفاته السياسية على خطابه العام.
ما يلفت الانتباه في مواقف الغرياني هو طبيعة الفتاوى التي يصدرها، حيث يُلاحظ أنها غالبًا ما تتطابق مع المواقف السياسية للجهات التي يتعاطف معها. لا يمكن إنكار أن الغرياني يمتلك مكانة علمية كفقيه إسلامي، إلا أن استخدامه للدين كأداة للتأثير في السياسة الداخلية يُعد تجاوزًا لدوره كمفتي. ففتاواه تبدو وكأنها موجهة لدعم حكومة دبية والحفاظ على نفوذها في المنطقة الغربية، بينما يُصور البرلمان الشرقي كعدو لدود وجب محاربته.
هذا الميل السياسي الواضح يضعه في موقف حساس، حيث يصبح متهماً بأنه ينحاز لطرف سياسي دون الآخر، ولا يعكس موقفًا حياديًا أو نزيهًا. فرغم تأكيده على أهمية العدالة في الحكم والشريعة، إلا أنه يتغاضى عن الأوضاع المزرية في طرابلس وباقي مناطق الغرب التي تخضع لسيطرة الميليشيات المسلحة، والتي تنتهك حقوق الإنسان وتفرض إرادتها بالقوة.
في حين ينتقد الغرياني مجلس النواب علنًا ويتهمه بتشريع الفساد، يبقى السؤال حول لماذا يتجاهل المفتي دور الميليشيات في الغرب. هذه الميليشيات التي ارتكبت جرائم حرب ونهبت موارد الدولة تمارس سلطتها تحت غطاء الدعم الحكومي، وتفلت من العقاب دون أي إدانة واضحة من الغرياني.
منذ سنوات، شهدت طرابلس والعديد من المدن الغربية تصاعدًا في العنف والفوضى بسبب نفوذ هذه الميليشيات. ومع ذلك، لا يتردد الغرياني في صرف نظره عن هذه الانتهاكات والتركيز فقط على البرلمان الشرقي. هذا السلوك الانتقائي يُبرز مدى تناقض مواقفه، ويُظهر أن عداءه للبرلمان ليس بسبب القوانين التي يصدرها بقدر ما هو جزء من صراع سياسي أوسع.
يبدو أن الغرياني يجد نفسه جزءًا من لعبة سياسية معقدة يتداخل فيها الدين مع السياسة بشكل يصعب فصلهما. إن دعمه المستمر لحكومة الدبيبة وتجاهله لانتهاكاتها يؤكد أن دوره كمفتي أصبح منحازًا لطرف سياسي معين، مما يقلل من مصداقيته في نظر الكثيرين. وبينما يواصل إصدار فتاوى تُدين البرلمان، يتجاهل عن عمد المظالم والانتهاكات التي تحدث في المناطق التي يسيطر عليها حلفاؤه.
الغرياني، الذي كان يفترض أن يُنظر إليه كصوت الحكمة الدينية في ليبيا، أصبح جزءًا من نزاع سياسي لا يرحم. وبينما تتوالى الاتهامات ضده بالتحيز والانتقائية، يظل سؤاله الأخلاقي الأكبر: هل يمكن لرجل دين أن يظل نزيهًا بينما يغرق في بحر السياسة؟ يبدو أن الإجابة على هذا السؤال تتضح شيئًا فشيئًا في مواقف الغرياني وتصريحاته المتناقضة.