تستمر أزمة تأخير الرواتب لتصبح شبحًا يخيم على العاملين بالدولة، إذ تتكرر وعود رئيس الحكومة امنتهية الولاية، عبد الحميد الدبيبة، بحل هذه الإشكالية، إلا أن الأزمة تتجدد لتضع آلاف الأسر أمام ضغوطات مالية خانقة. وقد عاد الدبيبة ليعِد بحل أزمة تأخير صرف رواتب شهر أكتوبر قبل نهاية الأسبوع الحالي، إلا أن سياسيين ليبيين يرون أن هذا الوعد قد لا يكون سوى محاولة أخرى لاحتواء الغضب الشعبي دون حلول جذرية حقيقية.
أزمة مستمرة ومزمنة في أروقة الدولة
وصف عضو مجلس النواب، عبد السلام نصية هذه الأزمة بأنها “مشكلة مزمنة”، وقد باتت تتكرر بصورة ملفتة خلال السنوات الأخيرة، حتى أصبح تأخير الرواتب واقعًا معتادًا في أذهان المواطنين. ويعود ذلك، وفقًا لنصية، إلى عدة عوامل هيكلية، أبرزها تضخم حجم الوظائف الحكومية بشكل غير مسبوق، حيث وصل عدد العاملين الممولين من خزينة الدولة إلى أكثر من مليوني موظف، بما يشكل 65% من إجمالي الدخل الوطني. ويتسبب هذا التضخم في استنزاف مالي للدولة، مما يجعل الوفاء بالالتزامات الشهرية للعاملين تحديًا عسيرًا، خاصة في ظل اعتماد الدولة على إيرادات النفط وحدها.
وتواجه الدولة تحديًا مركبًا؛ فعلى الرغم من النسبة العالية لموظفي القطاع العام، يبقى الإنتاج والتنمية متراجعَين في ظل الهيمنة النفطية على الاقتصاد الوطني. تقرير الرقابة الإدارية لعام 2023 أوضح أن الإنفاق على الرواتب تجاوز 372 مليار دينار خلال العقد الماضي، ومع تذبذب أسعار النفط، تتقلص قدرة الحكومة على صرف الرواتب بانتظام، ويزداد الضغط على المالية العامة التي تعاني من عجز هيكلي دائم.
أسباب تضخم بند الرواتب وأثره على التنمية
وفقًا لتصريحات صحفية لـ نصية، رصدتها “أخبار ليبيا 24”، فإن الزيادة العشوائية في التعيينات ضمن القطاع العام وزيادة الرواتب كانت عوامل أساسية في تضخم بند الرواتب، ويعزى هذا التضخم إلى التنافس بين حكومات متتالية سعت لاستقطاب الولاءات عبر تعيينات عشوائية، دون التفكير في عواقب هذه السياسات على المدى الطويل. ونتيجة لذلك، تراكمت الأعباء على ميزانية الدولة، التي أصبحت غير قادرة على تلبية متطلبات المواطنين الأساسية، وأصبحت الأزمة أكثر حدة مع تفاقم الصراع السياسي الداخلي.
وأشار نصية إلى أن الحكومة تتوسع في الإنفاق، ليس فقط من خلال تعيينات جديدة، بل من خلال ما يعرف بـ”الإفراجات المالية”، وهي قرارات مالية تتخذ في ظروف غامضة، مما يجعلها موضع شكوك حول مدى نزاهتها. وتتسم هذه الإفراجات بأنها غير مدروسة وقد شابها فساد واضح، مما يزيد من تعقيد أزمة الرواتب ويضع العراقيل أمام جهود التنمية الحقيقية.
التبعية النفطية وتداعياتها على استقرار الرواتب
تعد ليبيا من بين الدول التي تعتمد بشكل كبير على إيرادات النفط لتمويل موازنتها العامة، ما يجعلها عرضة لأزمات اقتصادية عند حدوث أي تذبذب في أسعار النفط أو مستويات الإنتاج. وقد أوضح نصية أن أي تقلب في أسعار النفط أو حجم الإنتاج ينعكس بشكل مباشر على قدرة الدولة على توفير الرواتب في مواعيدها، حيث تتراجع إيرادات الدولة مما يترك الخزينة العامة في حالة عجز كبير. وتصبح نتيجة هذه التبعية خطيرة على الاستقرار المالي، إذ تتأثر الدولة بتغيرات الاقتصاد العالمي أكثر من غيرها من الدول المتنوعة اقتصاديًا.
ومع قلة الاستثمارات خارج القطاع النفطي، أصبح من الصعب على ليبيا تحسين إيراداتها أو تنويع مصادر دخلها، مما يعمق الأزمات المالية ويجعل تأخير الرواتب وضعًا متكررًا. وأشار نصية إلى أن الدولة لم تتمكن بعد من تطوير سياسات مالية مستدامة تعتمد على الدخل غير النفطي، بل إن الإدارة المالية باتت تتخذ قرارات سطحية، مثل الإفراجات المالية المتكررة التي تفتقر إلى الشفافية.
انهيار الدورة المستندية وتأثيره على صرف الرواتب
يضاف إلى تلك المشكلات الهيكلية تفكك الدورة المستندية للدخل العام، حيث تشير تقارير إلى أن المؤسسة الوطنية للنفط تحتفظ بجزء من إيراداتها ولا تقوم بتوريدها مباشرة إلى خزينة الدولة. هذا الإجراء يزيد من تعقيد الأزمة ويترك المؤسسات الحكومية في مواجهة نقص مالي مستمر، ويؤدي إلى تعطيل صرف الرواتب. وقد اعتبر نصية هذه الظاهرة دليلًا على عدم وجود نظام مالي متكامل، حيث تُستغل إيرادات النفط لأغراض غير محددة، ما يزيد من تعقيد دورة الصرف المالي.
التوسع في الصرف وسعر الصرف وتأثيرهما على الأزمة
كما أن التوسع في الإنفاق الحكومي الناتج عن الصراعات السياسية وتعدد الحكومات المتنافسة أدى إلى تآكل قيمة العملة المحلية وزيادة التضخم، مما يؤثر سلبًا على القيمة الشرائية للرواتب. وتعاني العملة الليبية من تقلبات في سعر الصرف، وتواجه أزمة نتيجة التوسع في الصرف العام بما يفوق الإيرادات. وقد أشار نصية إلى أن هذه العوامل مجتمعة ستستمر في تعميق أزمة الرواتب وإعاقة جهود الحكومة لتجاوز هذا التحدي.
خاتمة: مسؤولية الحكومة والحاجة إلى إصلاحات جذرية
تستمر أزمة الرواتب في ليبيا بلا حلول تذكر، ويبدو أن الأوضاع الاقتصادية والسياسية الهشة تزيد من تعقيد الأزمة، في حين أن الحكومة الحالية تكتفي بتقديم وعودٍ متكررة دون تنفيذ حلول جذرية. فبينما ينتظر العاملون بفارغ الصبر رواتبهم التي أصبحت شريان حياتهم، تواجه الدولة استنزافًا لمواردها المالية بفعل سياسات غير مستدامة وأزمة مالية تتفاقم يومًا بعد يوم.