في خطوة جديدة تعكس استمرار السجال السياسي بين مؤسسات الدولة الليبية، وجه المجلس الرئاسي خطابًا إلى رئاسة مجلس النواب في محاولة لتسريع إقرار قانون المصالحة الوطنية الذي كان قد أحاله إلى البرلمان في فبراير 2024. في هذه الدعوة، لا يكتفي الرئاسي فقط بطرح المصلحة الوطنية كإطار عام للحل، بل يطالب أيضًا بإقرار القانون دون تعديل أو تدخلات إضافية، متجاهلًا ما قد يراه البعض مبررات لتعديل محتوى القانون بما يتلاءم مع التغيرات السياسية الراهنة.
القانون الذي يناقشه مجلس النواب يتناول مبدأ المصالحة الوطنية، وهو قانون يهدف إلى تهدئة الأوضاع المتوترة في ليبيا، التي تشهد صراعًا مستمرًا بين الحكومة والمجلس الرئاسي. لكن لا يمكن إغفال أن مسألة المصالحة الوطنية لا تقتصر فقط على الإقرار القانوني، بل تتطلب أيضًا توافقًا بين الأطراف السياسية المتناحرة. هنا، يظهر التحفظ الشعبي على فاعلية القانون بسبب الخلافات بين البرلمان والمجلس الرئاسي.
الرئاسي في خطابه لا يكتفي بالإشارة إلى أهمية إقرار القانون، بل يعلن بشكل واضح دعوته لتجنب إجراء أي تعديلات على القانون أثناء الجلسات البرلمانية. هذه الدعوة قد تثير جدلًا واسعًا داخل البرلمان، خصوصًا في ظل الانقسامات السياسية التي تواجهها البلاد، وفي ظل محاولات بعض الأطراف السياسية، بما فيها حكومة الدبيبة، للاستفادة من القانون لصالحها.
وإلى جانب مطلب إقرار قانون المصالحة، يجدد المجلس الرئاسي في خطابه التأكيد على أن المرحلة الانتقالية التي تمر بها ليبيا لا تتطلب إقرار قوانين قد تمس حقوق الإنسان أو تضر بالبنية الاقتصادية والمالية للدولة. هذه الرسالة تأتي في وقت حساس، حيث يتزايد القلق في الأوساط السياسية من تداعيات الإجراءات الأحادية التي يمكن أن تُتخذ، خصوصًا تلك التي قد تؤدي إلى مزيد من التشظي السياسي في البلاد.
تُظهر هذه الدعوة تباينًا بين مواقف المجلس الرئاسي والمجلس النيابي، فبينما يسعى الرئاسي إلى إقرار القانون بسرعة كخطوة نحو تهدئة الوضع، يعترض بعض أعضاء مجلس النواب على تنفيذ هذه الدعوة، معتبرين أنها قد تأتي على حساب المراجعة الدقيقة والتعديلات الضرورية التي قد تحسن من فعالية القانون. هذا التناقض يفتح الباب لمزيد من المناكفات بين الطرفين.
في نفس السياق، يبدو أن المجلس الرئاسي يسعى إلى استخدام قانون المصالحة كوسيلة للضغط على البرلمان، وخاصة في ظل انقساماته السياسية. فالرئاسي، الذي يدعم الحكومة منتهية الولاية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، لا يخفى عليه أن هذه الحكومة تواجه تحديات كبيرة في الحصول على دعم البرلمان.
إصرار الرئاسي على إقرار القانون دون تعديلات قد يكون مدفوعًا برغبته في تقوية موقف حكومة الدبيبة، وتحديدًا في ظل المعركة المستمرة بين الحكومة والبرلمان. هنا يكمن التساؤل الأبرز: هل يسعى الرئاسي فعلاً إلى دعم الاستقرار السياسي، أم أنه يحاول فقط تعزيز موقف الدبيبة السياسي على حساب البرلمان؟
مطلب العودة إلى الاتفاق السياسي هو أبرز ما جاء في خطاب المجلس الرئاسي، وهو يمثل دعوة صريحة للعودة إلى الأسس التي تم الاتفاق عليها لتشكيل الحكومة الانتقالية. هذه الدعوة تجد صدى في قلوب الكثيرين الذين يرون أن استمرار التجاذبات السياسية قد يجر البلاد نحو مزيد من الانقسام.
ولكن السؤال الذي يظل مطروحًا هو: هل يستطيع المجلس الرئاسي بالفعل أن يقود ليبيا نحو تحقيق الاستقرار عبر هذا الاتفاق؟ أم أن الواقع السياسي الحالي، المليء بالتحديات والمعارك السياسية، سيجعل من العودة إلى الاتفاق السياسي حلمًا بعيد المنال؟ الواقع يشير إلى أن المجلس الرئاسي فقد جزءًا من مصداقيته كحكم محايد، خاصة في ظل دعمه المعلن لحكومة الدبيبة، ما يعزز من الشكوك حول قدرته على لعب دور الوسيط الفعال بين الأطراف المتنازعة.
بينما يواصل المجلس الرئاسي دعوته لإقرار قانون المصالحة الوطنية دون تعديل، يبقى التساؤل الأهم هو مدى قدرة هذه الخطوة على تحقيق التوافق بين الأطراف السياسية في ليبيا. تظل التحديات التي تواجه البلاد ضخمة، والمصالحة الوطنية لن تكون سوى خطوة أولى نحو بناء استقرار دائم، شريطة أن تترافق مع رغبة حقيقية في التعاون بين مختلف المؤسسات السياسية.
في ظل المشهد الحالي، حيث تعمقت الانقسامات، باتت ليبيا بحاجة إلى أكثر من مجرد قوانين سياسية، بل إلى استراتيجية شاملة تحقق السلام الاجتماعي والعدالة لجميع الأطراف. وفي هذا السياق، تظل دعوة الرئاسي للعودة إلى الاتفاق السياسي عنوانًا يحمل الأمل في بناء توافق حقيقي، وإن كان طريقه غير واضح تمامًا في ظل الظروف الراهنة.