في خطوة جريئة تعكس محاولاتها المستمرة لضبط النظام الإداري والمالي في ليبيا، أصدرت هيئة الرقابة الإدارية، برئاسة عبدالله قادربوه، سلسلة من القرارات التي تستهدف تحسين الأداء المؤسسي والحد من الفوضى الإدارية التي أرهقت الخزانة العامة. تضمنت هذه القرارات مخاطبات لجهات سيادية مختلفة بهدف تصحيح المسار في ملفات متعددة شملت مراجعة الأعمال المصرفية، ضبط الإيفادات الدراسية، وتنظيم التعيينات في القطاع العام.
طالبت هيئة الرقابة الإدارية مصرف ليبيا المركزي بضرورة إحالة نسخة رسمية باللغتين العربية والإنجليزية من تقرير شركة “ديلويت” البريطانية، التي تم تكليفها بمراجعة الأنشطة المصرفية الليبية. التقرير، الذي يُفترض أنه يتضمن مراجعات تفصيلية حول العمليات المالية محليًا ودوليًا، لا يزال حبيس الأدراج، مما يثير تساؤلات عن الشفافية وآليات الرقابة.
وأشارت الهيئة إلى ضرورة إمدادها بمعلومات شاملة حول الشركات المزمع التعاقد معها وإجراءاتها الفنية والمالية. هذا المطلب يأتي وسط اتهامات بأن عدم نشر التقرير قد يؤدي إلى تجاهل ملاحظات هامة بشأن أداء المصرف المركزي، مما يضع الجهات المعنية في موقف محرج أمام الرأي العام.
وفق مصادر مطلعة، فإن عدم إحالة التقرير لأي جهة سيادية أو تنفيذية يُعد انتهاكًا لأسس الحوكمة المالية. وأكدت الرقابة الإدارية أهمية اتخاذ إجراءات حازمة لتفادي ملاحظات سلبية قد تؤثر على أداء القطاع المصرفي بأكمله.
في قرار آخر يسلط الضوء على الأعباء المالية المتزايدة، أوقفت هيئة الرقابة الإدارية جميع قرارات عبد الحميد الدبيبة، رئيس الحكومة منتهية الولاية، بالإيفاد الدراسي بالداخل والخارج. المنع جاء على خلفية توسّع وزارة التعليم العالي، وما سبقها من وزارات، في إصدار قرارات إيفاد ترتبت عليها التزامات مالية هائلة، لم تستطع الخزانة العامة الوفاء بها.
عبدالله قادربوه، رئيس الهيئة، أشار إلى أن هذه القرارات أدت إلى الدخول في منازعات قضائية وأحكام مالية، وهو ما دفع بالهيئة إلى التدخل لوقف هذا النزيف المالي. ووفقًا للمصادر، فإن معظم قرارات الإيفاد جاءت دون دراسة جدوى واضحة أو تنسيق مع الجهات المعنية، مما خلق أزمات إضافية في تنفيذ الالتزامات المالية.
الرقابة الإدارية أكدت أن الإيفاد لا يمكن أن يستمر دون تسوية الديون القديمة وضمان الالتزام بالمخصصات المحددة في الميزانية العامة.
القرار الثالث الذي أثار جدلًا واسعًا تمثل في وقف كافة إجراءات التعاقد والتعيين في الجهات العامة. جاء ذلك بسبب التزايد الكبير في أعداد الموظفين، الذين تجاوز عددهم مليوني موظف، بمخصصات سنوية بلغت 372.795 مليار دينار.
الهيئة لفتت إلى أن هذه الزيادة نجمت عن قرارات عشوائية بإصدار تعيينات وتعاقدات دون الالتزام بالقوانين، مما أثقل كاهل الدولة بتبعات مالية ضخمة. وتسبب ذلك في تفاقم أزمة الإفراجات المالية وخلق مراكز قانونية جديدة، دون وجود قدرة فعلية على تسديد المستحقات.
كما أشار التقرير إلى أن بعض الجهات العامة أعفت موظفيها من إثبات الحضور والانصراف بحجة عدم صرف مرتباتهم، مما أسهم في تفاقم الفوضى الإدارية. الرقابة الإدارية شددت على أن التنظيم الفوري لهذه التعيينات أصبح ضرورة ملحة لضمان استقرار الجهاز الإداري.
القرارات الأخيرة للرقابة الإدارية تكشف حجم التحديات التي تواجهها الدولة في ضبط الأداء الإداري والمالي. المطالبات بإحالة تقارير “ديلويت” تبرز الحاجة الماسة إلى الشفافية في إدارة القطاع المصرفي، خاصة في ظل تزايد الضغوط الدولية لمراجعة أداء المؤسسات المالية الليبية.
في الوقت ذاته، فإن وقف الإيفادات الدراسية والتعيينات العامة يُعد خطوة نحو كبح الهدر المالي. لكن، هذه القرارات تحتاج إلى آليات تنفيذ صارمة وإجراءات متابعة لضمان عدم تكرار الأخطاء الماضية.
الرقابة الإدارية تواجه معركة شاقة لإعادة هيكلة المؤسسات العامة وضبط أدائها. لكن يبقى التساؤل: هل تمتلك الهيئة الأدوات والموارد الكافية لتحقيق أهدافها؟