لطالما شكَّل قطاع النفط العمود الفقري للاقتصاد الليبي، حيث يُعتبر المصدر الرئيسي للعملة الصعبة والداعم الأساسي للموازنة العامة. ومع ذلك، تكشف المراسلة الأخيرة لرئيس المؤسسة الوطنية للنفط إلى وزير المالية في حكومة الوحدة الوطنية عن تراجع خطير في الإيرادات النفطية لعام 2024، مقارنة بالعام السابق، بانخفاض قدره 6.447 مليار دولار. هذا التراجع لم يأتِ من فراغ، بل كان نتيجة لسلسلة من العوامل المتداخلة التي أرخت بظلالها على القطاع.
أحد الأسباب الجوهرية التي ساهمت في تراجع الإيرادات هو الارتفاع الملحوظ في قيمة توريدات المحروقات من الخارج، حيث بلغت الزيادة حوالي 500 مليون دولار، بسبب تنامي الطلب المحلي، لا سيما من قبل كبار المستهلكين مثل محطات توليد الكهرباء والمصانع الثقيلة. ورغم أن هذا الطلب يعكس حيوية اقتصادية نسبية، إلا أن الاعتماد الكبير على الاستيراد يفاقم من العجز المالي، خاصة في ظل محدودية الإنتاج المحلي.
تمثل مصفاة الزاوية إحدى الركائز الأساسية في عمليات التكرير داخل ليبيا، ولكنها تعرضت خلال الفترة الأخيرة لإغلاقات متكررة، ما اضطر الدولة إلى تعويض النقص عبر الاستيراد الخارجي. هذا التحول لم يؤثر فقط على فاتورة المحروقات، بل ألقى بعبء إضافي على الخزينة العامة التي وجدت نفسها مضطرة إلى تخصيص ميزانيات جديدة لتغطية الاحتياجات المتزايدة.
لم تكن إشكالية النفط وحدها العامل المحدد لتراجع الإيرادات، بل ساهم تذبذب إنتاج الغاز في تعقيد المشهد. فبسبب انخفاض الإنتاج، اضطرت السلطات إلى زيادة الاعتماد على وقود الديزل لضمان استمرار تشغيل المنشآت الحيوية، مما ضاعف الإنفاق الحكومي على المحروقات المستوردة، في الوقت الذي كان يفترض أن يكون الغاز المحلي كافياً لسد هذه الاحتياجات.
من العوامل اللافتة التي تناولتها المراسلة، ارتفاع تكاليف استيراد المحروقات بمقدار 100 مليون دولار مقارنة بعام 2023، وهو مبلغ لا يقتصر فقط على تغطية الاستهلاك الحالي، بل يشمل أيضاً سداد مديونية متراكمة من الأعوام السابقة بلغت 40 مليون دولار. هذا يشير إلى أن القطاع لا يزال يعاني من أعباء مالية لم تُحسم بعد، مما يعمق أزمة السيولة.
أحد أكثر البنود إثارة للجدل في المراسلة هو توريد شحنات من الغاز الطبيعي المسال إلى مصر، بكلفة بلغت 199 مليون دولار. ورغم أن التعاون بين البلدين في مجال الطاقة ليس بالأمر الجديد، إلا أن هذا الرقم يطرح تساؤلات حول مدى أولوية تأمين الاحتياجات المحلية قبل التصدير، خصوصاً في ظل أزمة تذبذب الإنتاج وارتفاع الاستهلاك الداخلي.
في سياق متصل، أشار رئيس المؤسسة الوطنية للنفط إلى زيادة مخصصات تسوية الغاز لصالح شركة إيني الإيطالية، حيث ارتفعت إلى 447 مليون دولار في 2024 مقارنة بالعام الماضي. يعود ذلك بشكل أساسي إلى تراجع الإنتاج المحلي، مما قلل الكميات المخصصة للتصدير، ما اضطر الحكومة إلى تعويض شريكها الاستراتيجي عن الحصص المفقودة، الأمر الذي يحد من قدرة ليبيا على الاستفادة من مواردها بشكل كامل.
إضافة إلى ما سبق، فإن حصة الشركاء الأجانب في قطاع النفط ارتفعت خلال 2024 بمقدار 10 ملايين برميل مقارنة بعام 2023. هذا يعني أن جزءاً أكبر من الإنتاج يُستهلك داخلياً أو يُخصص لسداد التزامات الشركات الأجنبية، مما يترك هامشاً أقل للبيع في الأسواق العالمية وتحقيق إيرادات إضافية.
هذا التراجع الكبير في إيرادات النفط لا يُعد مسألة محاسبية فحسب، بل يحمل في طياته تأثيرات أوسع على الاقتصاد الوطني. فمع انخفاض الإيرادات، ستواجه الحكومة صعوبات أكبر في تمويل الميزانية العامة، مما قد ينعكس على الإنفاق العام، بما في ذلك رواتب الموظفين، وخطط التنمية، ودعم السلع الأساسية.
علاوة على ذلك، فإن العجز المالي قد يُجبر الحكومة على البحث عن مصادر تمويل بديلة، إما من خلال الاقتراض الداخلي أو محاولة جذب الاستثمارات الأجنبية، وهي حلول لا تخلو من تحديات، خاصة في ظل الوضع السياسي غير المستقر.
أمام هذا المشهد المعقد، ثمة حاجة ملحة لإعادة النظر في السياسات النفطية والمالية للدولة. ومن بين الحلول التي يمكن تبنيها:
يبقى قطاع النفط في ليبيا ساحة لتفاعلات سياسية واقتصادية متشابكة، حيث لا يقتصر الأمر على أرقام الإيرادات والنفقات، بل يمتد ليشمل قرارات استراتيجية تحدد مستقبل الاقتصاد الوطني. وفي ظل هذا التراجع الكبير في العائدات النفطية، يصبح من الضروري إعادة النظر في الأولويات، لضمان استدامة المورد الأساسي للدولة وعدم السماح للأزمات المرحلية بأن تتحول إلى أزمات بنيوية طويلة الأمد.