في مشهد يكرّس تعقيدات المشهد الليبي، ويعيد إلى الواجهة الجدل حول الأدوار الخارجية في الأزمة المستمرة، خرج الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش ليطلق تحذيرًا صريحًا موجّهًا للدول المتدخلة في الشأن الليبي، مؤكدًا أن هذه التدخلات لا تخدم أي طرف على المدى الطويل، بل تعرقل جهود إحلال الاستقرار والسلام في بلد مزّقته الصراعات والانقسامات.
بلهجة حازمة، أكد غوتيريش أن “على البلدان التي تتدخل في ليبيا لحماية مصالحها أن تدرك أنه من الأفضل أن يكون هناك ليبيا تنعم بالسلم؛ لأن الجميع سوف يستفيد من ذلك”، مشددًا على أن ليبيا القادرة على إدارة شؤونها بشكل مستقل أفضل من ليبيا التي تظل ساحة صراع نفوذ بين القوى الإقليمية والدولية.
رسالة غوتيريش، التي جاءت خلال تصريحات تلفزيونية مساء الجمعة، لم تكن مجرد تصريح دبلوماسي عابر، بل تعكس إدراكًا متزايدًا من الأمم المتحدة بأن الانقسامات الداخلية في ليبيا تجد دائمًا من يغذيها من الخارج، في وقت يُفترض أن يكون الحل ليبيًّا خالصًا.
منذ سقوط النظام السابق في عام 2011، تحولت ليبيا إلى ساحة تنافس بين قوى إقليمية ودولية، بعضها يسعى لتحقيق مكاسب سياسية، والبعض الآخر يطمع في ثرواتها النفطية وموقعها الاستراتيجي. لكن الحقيقة التي يكررها المجتمع الدولي، أن استمرار هذا الصراع لا يخدم أي طرف في النهاية. فالتدخلات المستمرة لم تؤدِّ إلى استقرار أي طرف، بل أجهضت كل محاولات إعادة بناء الدولة.
يعتقد غوتيريش أن الحل الوحيد لمعضلة ليبيا هو السماح لشعبها بأن يقرر مصيره دون إملاءات خارجية. وهو ما أكده بقوله: “من المهم أن يدرك من هم في السلطة أن هذا الوضع لا يبرر الحفاظ على الأمور وإطالة أمدها”. وهو تصريح يفهم منه أن الاستمرار في تأجيل الحلول السياسية، واستمرار سياسة الأمر الواقع، سيؤدي إلى مزيد من التعقيد والانهيار.
في السياق ذاته، أصدرت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بيانًا مقتضبًا لكنها بالغ الأهمية، أكدت فيه أن دورها يقتصر على مساعدة الأطراف الليبية للتوصل إلى حلول سياسية وأمنية واقتصادية، لكن هذه الحلول يجب أن تكون “بقيادة وملكية ليبية”.
هذا الموقف ينسجم مع تصريحات غوتيريش، ويؤكد توجه الأمم المتحدة نحو دفع الفرقاء الليبيين لتحمل مسؤولياتهم وإيجاد مخرج للأزمة بأيديهم، بدلاً من الرضوخ لإملاءات خارجية قد تزيد من حدة الانقسامات.
في غضون ذلك، يستعد مجلس الأمن الدولي لعقد إحاطته نصف الشهرية بشأن ليبيا، والتي من المقرر أن تشمل تقريرين رئيسيين: الأول من ممثل عن الأمم المتحدة حول مستجدات الأوضاع السياسية والأمنية والإنسانية، والثاني من رئيس لجنة العقوبات الخاصة بليبيا حول أنشطتها.
هذه الجلسة تأتي في وقت حساس، حيث لا تزال الانقسامات قائمة بين الأطراف الليبية، فيما لم تنجح محاولات توحيد المؤسسات المالية والعسكرية في إنهاء حالة الجمود. كما أن ملف العقوبات الدولية المفروضة على بعض الشخصيات والكيانات الليبية قد يكون محل نقاش مستفيض، في ظل تساؤلات حول فاعليتها ومدى الحاجة إلى تعديلها أو تشديدها.
رغم أن هناك إجماعًا دوليًا على ضرورة إنهاء التدخلات الخارجية، إلا أن الواقع الميداني يعكس مشهدًا مغايرًا. فالأطراف الليبية لا تزال تعتمد على داعمين خارجيين لتحقيق مكاسب داخلية، سواء كان ذلك في شكل دعم عسكري، اقتصادي، أو حتى سياسي. كما أن استمرار الانقسام المؤسسي بين شرق وغرب البلاد يعقّد أي جهود لإنجاز تسوية سياسية شاملة.
من جهة أخرى، يبقى ملف الانتخابات العالقة أحد أكبر التحديات. فبعد سنوات من التعثر، لا تزال الأطراف غير متفقة على إطار واضح لإجراء الانتخابات، سواء فيما يتعلق بالقوانين المنظمة لها، أو هوية المرشحين الذين يمكنهم خوضها.
تحذيرات غوتيريش وتصريحات بعثة الأمم المتحدة تبدو وكأنها محاولة جديدة لدفع الأطراف الليبية والدول المتدخلة نحو مراجعة حساباتها. لكن يبقى السؤال الأهم: هل ستترجم هذه التحذيرات إلى إجراءات فعلية؟ أم أنها ستظل مجرد بيانات دبلوماسية لا أثر لها على الأرض؟
من المؤكد أن المجتمع الدولي يمتلك أوراق ضغط، مثل العقوبات الاقتصادية أو تقليص الدعم السياسي لبعض الأطراف، لكنه في المقابل يواجه تحدي غياب الإرادة الحقيقية داخل ليبيا لإنهاء الأزمة وفق حلول ليبية بحتة.
ما قاله غوتيريش هو في جوهره دعوة لإنهاء حقبة التدخلات الخارجية التي ساهمت في تعقيد المشهد الليبي. لكن الطريق نحو تحقيق هذا الهدف لا يزال طويلًا وشاقًا، ويحتاج إلى إرادة حقيقية من الداخل قبل أي شيء آخر.
في النهاية، لا يمكن الحديث عن استقرار ليبيا بمعزل عن إرادة الليبيين أنفسهم. فمهما كثرت المبادرات الدولية، ومهما تعالت الأصوات المطالبة بحلول سلمية، سيظل مصير ليبيا في يد أبنائها. والتاريخ أثبت أن الحلول الخارجية لا تدوم، وأن الاستقرار الحقيقي يبدأ من الداخل، بعيدًا عن الحسابات الضيقة والمصالح المتشابكة.