في ظل التقلبات التي يشهدها سوق الصرف الليبي، يطل مصرف ليبيا المركزي بتصريحات تعكس مساعيه الدؤوبة لضبط المشهد النقدي، حيث أعلن أن عمليات بيع النقد الأجنبي تسير بسلاسة دون عوائق تُذكر، مطمئنًا السوق والمواطنين بأن كافة الطلبات الواردة عبر منظومة الاعتمادات المستندية والبطاقات المصرفية تتم تغطيتها بالكامل. هذه الرسائل تأتي في وقت يترقب فيه الجميع أي مؤشرات لانتعاش الدينار الليبي بعد فترة طويلة من التذبذب الحاد.
التصريحات الأخيرة للمركزي تضمنت توقعًا قد يحمل بريق أمل للمواطنين الذين أنهكتهم ارتفاعات الأسعار المرتبطة بسعر الصرف. إذ رجح أن يشهد الدولار انخفاضًا إلى أقل من 6 دنانير و35 درهمًا خلال الأسبوع الجاري بعد أن بلغ 6 دنانير و40 درهمًا مؤخرًا. هذا التوقع يفتح الباب أمام تساؤلات كثيرة: هل يعود الانخفاض إلى سياسات المركزي الفعالة أم أنه انعكاس لعوامل أخرى متعلقة بتغيرات العرض والطلب في السوق الموازي؟
وفقًا للمصرف المركزي، فإن العمل جارٍ على مراقبة سوق الصرف بشكل مستمر لضمان استقرار الأسعار والحفاظ على توازن العرض والطلب على النقد الأجنبي. هذا النهج يأتي ضمن استراتيجية أوسع تهدف إلى الحد من التقلبات الحادة التي تلقي بظلالها على معيشة المواطن، وكذلك على أداء القطاع المصرفي ككل.
لكن يبقى التساؤل الأهم: هل تكفي هذه المراقبة وحدها لضمان استقرار السوق؟ يرى محللون أن التحديات تتجاوز مجرد المتابعة، إذ تحتاج السياسات النقدية إلى إجراءات أشمل، منها ضبط آليات العرض وزيادة التدفقات النقدية عبر القنوات الرسمية لكبح جماح السوق الموازي الذي لا يزال يفرض سطوته في أوقات الأزمات.
بعيدًا عن سعر الصرف، شهد القطاع المالي تطورًا مهمًا مع إعلان مصرف ليبيا المركزي منح إذن مزاولة نهائي لـ 64 شركة ومكتب صرافة، الأمر الذي سيسمح لهذه الشركات بمباشرة نشاطها اعتبارًا من الأسبوع المقبل. الإعلان عن منح التراخيص يتزامن مع مساعٍ حكومية لتنظيم سوق الصرافة وتعزيز الشفافية، خاصة في ظل الانتقادات السابقة بشأن العشوائية التي طغت على هذا القطاع في السنوات الأخيرة.
لكن هل تؤدي هذه الخطوة إلى ضبط سوق الصرافة أم أنها ستفتح المجال لمزيد من التعقيدات؟ يرى مراقبون أن تنظيم السوق يتطلب أكثر من مجرد منح تراخيص، فالتحدي الحقيقي يكمن في ضمان امتثال هذه الشركات للمعايير الصارمة ومنع أي استغلال قد يؤدي إلى تفاقم المضاربات على العملة.
تأتي هذه الإجراءات في إطار رؤية أوسع يتبناها المركزي لضبط السوق المالي وضمان أن تعمل المؤسسات المرخصة ضمن الأطر القانونية المعتمدة. فالقطاع المصرفي الليبي لا يزال يعاني من آثار الأزمات المتراكمة، بدءًا من انقسامات السلطة النقدية بين الشرق والغرب، وصولًا إلى تحديات السيولة وانخفاض الثقة في المنظومة المصرفية.
في ظل هذه التحديات، تبدو تحركات المصرف المركزي خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنها بلا شك تحتاج إلى تدعيم بإصلاحات أعمق لضمان استدامة النتائج. فالسوق المالي الليبي ليس مجرد معادلة نقدية بحتة، بل هو انعكاس لواقع اقتصادي متداخل يتطلب حلولًا متكاملة تجمع بين الاستقرار النقدي، وتعزيز الإنتاجية الاقتصادية، وتحفيز بيئة استثمارية جاذبة.
مع استمرار تحركات المركزي، تبقى الأسواق في حالة ترقب لمدى نجاح هذه السياسات في تحقيق الاستقرار المنشود. فإذا تحقق الانخفاض المتوقع في سعر الدولار، فقد يكون ذلك مؤشرًا على نجاعة التدابير الحالية. لكن في المقابل، إذا استمر التذبذب أو ارتد السعر مجددًا نحو الارتفاع، فسيكون على المركزي إعادة النظر في أدواته النقدية. فالأمر لا يتعلق فقط بمراقبة السوق، بل بخلق بيئة نقدية متوازنة تدعم الاقتصاد الحقيقي بدلًا من الارتهان لتقلبات سوق الصرف.