أزمة السيولة النقدية في ليبيا ليست وليدة اليوم، بل هي امتداد لسنوات من السياسات الاقتصادية المتعثرة، والإصلاحات غير المكتملة، والتجارب التي لم تؤتِ ثمارها كما كان مأمولًا. في كل مرة يقترب فيها الاقتصاد من بصيص أمل، تأتي قرارات جديدة تعيده إلى نقطة الصفر، وكأننا عالقون في حلقة مفرغة، لا بداية واضحة لها ولا نهاية تلوح في الأفق.
عندما يُطرح حل طباعة العملة، فإنه يبدو للوهلة الأولى وكأنه طوق نجاة سريع لإنقاذ الأسواق من جفاف السيولة، خاصة في المناسبات المهمة مثل شهر رمضان، حيث يزداد الطلب على النقود بشكل كبير. لكن، هل يمكن أن يكون الحل المستعجل هو ذاته المشكلة المستقبلية؟
إن طباعة النقود دون وجود إنتاج حقيقي أو نمو اقتصادي يتناسب معها تؤدي إلى التضخم، فكل ورقة نقدية تُضاف إلى السوق تفقد جزءًا من قيمتها الشرائية، ما لم تكن مدعومة بنشاط اقتصادي حقيقي. صحيح أن هذه الخطوة قد تساهم في تهدئة الأزمة على المدى القصير، لكنها ليست سوى حل مؤقت، مثل من يسد ثغرة في السد بطين رطب، ما يلبث أن ينهار مع أول موجة قوية.
الاعتماد على التحسن التدريجي في أزمة السيولة، كما حدث بعد تعديل سعر الصرف عام 2018، يبدو طرحًا نظريًا قائمًا على فرضية أن الأمور ستتحسن بمرور الوقت. لكن الواقع الاقتصادي لا يسير دائمًا بهذه البساطة. إذا كانت السنوات الماضية قد أثبتت شيئًا، فهو أن التحسن التدريجي ليس خيارًا مضمونًا، بل قد يكون مجرد مرحلة مؤقتة تتلاشى مع أي قرار خاطئ أو أزمة سياسية جديدة.
لقد بدأ هذا التحسن بالفعل في أوائل 2023، قبل أن تأتي قرارات الصديق الكبير وتقلب الطاولة، ليعود الاقتصاد إلى نقطة الصفر. فهل يمكننا أن ننتظر ست سنوات أخرى على أمل تحسن بطيء؟ بالطبع، لا يبدو هذا مقبولًا، خاصة في ظل اقتصاد هش يعاني من التذبذب المستمر.
إذا كان هناك حل جذري وحقيقي لمشكلة السيولة، فهو بلا شك الدفع الإلكتروني، حيث يمكن تقليل الاعتماد على النقد الورقي، وإتاحة معاملات أكثر سلاسة، وضمان تدفق الأموال بسهولة بين الأفراد والمؤسسات.
لكن المشكلة الحقيقية ليست في طرح الفكرة، بل في تنفيذها. فالدفع الإلكتروني ليس مجرد بطاقات مصرفية وماكينات دفع موزعة في المتاجر، بل هو منظومة متكاملة تحتاج إلى بنية تحتية متماسكة، وثقة مجتمعية، وتشريعات داعمة، وبيئة اقتصادية مستقرة.
ما يقوم به المصرف المركزي حاليًا يشبه بناء جسر من جهة واحدة فقط، دون ربطه بالطرف الآخر. إذا لم يتم استكمال هذه الدائرة، فكل الجهود المبذولة ستكون مجرد محاولة أخرى تنتهي إلى الفشل.
إن أزمة السيولة ليست مجرد مشكلة تقنية تحتاج إلى إجراءات مصرفية، بل هي انعكاس لسياسات اقتصادية يجب أن تُراجع من الجذور. الحلول الترقيعية لن تفيد، وانتظار التحسن الطبيعي قد يكون مجرد وهم. إذا أردنا الخروج من هذه الدوامة، فعلينا أن نبني حلولًا حقيقية، لا أن نُعيد تدوير الأزمات نفسها كل بضع سنوات.