في زمنٍ باتت فيه الأزمات الاقتصادية تتوالى على المواطن كالأمواج العاتية، يصبح تأخر صرف المرتبات ليس مجرد حادثٍ عابر، بل روتيناً يومياً يفرض على الموظف أن يتأرجح بين الاقتراض من الغير، أو مراكمة الديون على كاهله، أو الدخول في دوامة من التوتر والصراعات الأسرية. غير أن المصارف التجارية، بتوجيهات من مصرف ليبيا المركزي، قدمت ما بدا وكأنه طوق نجاة للمواطنين، عبر منح سلفة مالية تصل إلى 60% من قيمة المرتب، تُصرف إلكترونياً، وبدون عمولات أو رسوم.
لطالما شكى الموظفون من تأخر المرتبات، الذي أصبح جزءاً من نمط الحياة الاقتصادي في ليبيا. ففي ظل هذا التأخير المزمن، وجد الكثيرون أنفسهم في مواقف حرجة، تتراوح بين الاستدانة من الأصدقاء والأقارب، أو اللجوء إلى شراء السلع بالدَّين، أو حتى الدخول في نزاعات مع أفراد أسرهم بسبب تزايد الالتزامات المادية. وعليه، فإن منح سلفة على قوة المرتب ليس مجرد تسهيل مالي، بل هو محاولة لتوفير آلية تمكن الموظف من “الاستدانة من نفسه”، عبر حصوله على جزء من راتبه مقدماً دون الحاجة إلى الغير.
الأثر الإيجابي لهذا القرار يتجاوز مجرد التخفيف عن الموظف، بل يمتد إلى معالجة واحدة من أكثر المشكلات الاقتصادية تعقيداً في ليبيا: أزمة السيولة النقدية. فبما أن هذه السلفة تُصرف عبر أدوات الدفع الإلكتروني، سواء من خلال البطاقات المصرفية أو التطبيقات الرقمية، فإن ذلك يعني تقليل الاعتماد على النقد الورقي، وتشجيع ثقافة التعاملات الإلكترونية التي ما زالت في طور النشوء في ليبيا.
هنا تكمن نقطة جوهرية: الأموال الممنوحة ليست سيولة نقدية تُسحب من المصارف، بل أرقام تُحوَّل من حساب إلى آخر، ما يسهم في إبقاء الكتلة النقدية داخل المنظومة المصرفية، ويقلل من الضغوط على المصارف التي تعاني أصلاً من نقص السيولة المتداولة.
لطالما كان القطاع المصرفي في ليبيا يعاني من أزمة ثقة مع عملائه، حيث اعتاد المواطن أن يرى في المصرف مؤسسة معطلة أكثر منها كياناً خدمياً يُسهل حياته. لكن هذه الخطوة، بقدر ما تمثل حلاً آنياً، فإنها تحمل في طياتها محاولة لإعادة بناء الجسور بين المصارف وزبائنها.
فالمواطن اليوم ليس بحاجة فقط إلى حلول تُخفف من ضغوطه المالية، بل هو أيضاً في أمسّ الحاجة إلى أن يشعر بأن النظام المصرفي يعمل لأجله، وليس ضده. من هنا، فإن منح السلفة بهذه الآلية، ودون فرض أي رسوم إضافية، يمكن اعتباره رسالة مباشرة من المصارف إلى المواطنين: “نحن هنا لخدمتكم”.
لكن نجاح هذه المبادرة يتوقف على مدى كفاءة البنية التحتية المصرفية في ليبيا. إذ لا يزال هناك العديد من العقبات التقنية أمام تعميم الخدمات المصرفية الرقمية، منها ضعف انتشار نقاط البيع الإلكترونية في كثير من المناطق، وعدم إلمام نسبة كبيرة من المواطنين بكيفية استخدام التطبيقات المصرفية.
ومع ذلك، فإن المصارف التجارية لم تقف مكتوفة الأيدي، بل سارعت إلى تزويد المحلات التجارية بأجهزة نقاط البيع مجاناً، وألغت أي عمولات على الزبائن عند استخدامهم لهذه الخدمة. هذه الخطوة ليست فقط دعماً للموظف المستفيد من السلفة، بل أيضاً تحفيزاً للتجار على تبني منظومة الدفع الإلكتروني، وبالتالي خلق بيئة مصرفية متكاملة تسهم في تخفيف أزمة السيولة النقدية على نطاق أوسع.
إن هذه الخطوة، رغم بساطتها، تفتح الباب أمام نقاش أوسع حول مستقبل النظام المصرفي الليبي، وإمكانية التحول التدريجي إلى اقتصاد رقمي أكثر استقراراً. فالاعتماد على المعاملات الإلكترونية يقلل من مخاطر التلاعب النقدي، ويساهم في تعزيز الشفافية، كما أنه يمنح المصارف قدرة أكبر على التحكم في تدفقات الأموال، وبالتالي دعم الاقتصاد الوطني بشكل أكثر فاعلية.
لكن الأهم من ذلك، أن نجاح هذه المبادرة قد يكون حافزاً للمزيد من الإصلاحات المصرفية، سواء من خلال تحسين كفاءة التحويلات المالية، أو تقديم مزيد من الحلول المصرفية الرقمية التي تخفف عن كاهل المواطن، وتمكّنه من إدارة أمواله بطريقة أكثر مرونة وفعالية.
في نهاية المطاف، قد لا تكون السلفة المصرفية بنسبة 60% الحل السحري لكل الأزمات الاقتصادية التي يعاني منها المواطن الليبي، لكنها بلا شك خطوة مهمة نحو بيئة مصرفية أكثر تطوراً. فإذا تمكنت المصارف من تطوير بنيتها التحتية، واستمرت في تقديم مزيد من الحلول المالية المبتكرة، فإن ذلك سيعزز ثقة المواطنين في المنظومة المصرفية، ويمهد الطريق نحو اقتصاد رقمي أكثر كفاءة واستدامة.