منذ أكثر من عقد، تعيش ليبيا على وقع انقسامات سياسية وصراعات مسلحة أضعفت مؤسسات الدولة وأثقلت كاهل المواطن بالمعاناة وعدم الاستقرار. ورغم تعدد المبادرات والمسارات السياسية، يبقى ملف المصالحة الوطنية الخيار الأكثر أهمية وضرورة، لأنه يمثل القاعدة الصلبة لأي مشروع وطني يهدف إلى توحيد البلاد وفتح آفاق جديدة لمستقبل أفضل.
تنبع أهمية المصالحة من كونها المدخل لإنهاء دوامة الصراع الداخلي، فهي السبيل لوقف دائرة الانتقام والثأر، وتفتح المجال أمام التسامح وتجاوز الأحقاد التي تراكمت بين الأفراد والجماعات والمدن.
إعادة بناء النسيج الاجتماعي الممزق بفعل الحرب
كما تُمكّن من إعادة بناء النسيج الاجتماعي الممزق بفعل الحرب، فالمجتمع الليبي بطبيعته قبلي ومتعدد المكونات، وأحداث السنوات الماضية تركت جروحاً عميقة لا يمكن مداواتها إلا عبر مصالحة حقيقية تعيد الثقة بين مختلف الأطراف.
إلى جانب بعدها الاجتماعي، تمثل المصالحة الوطنية عاملاً أساسياً لتعزيز شرعية الدولة، إذ لا يمكن لأي حكومة أن تمارس سلطاتها بفعالية من دون توافق وطني يضمن قبولها من الجميع. وهي كذلك مدخل لتحقيق العدالة الانتقالية من خلال تعويض الضحايا وكشف الحقائق، بما يرسخ شعور المواطنين بالإنصاف ويمهد لسلام دائم.
ومن الناحية الاقتصادية، تساهم المصالحة في تهيئة بيئة آمنة للتنمية والاستثمار، لأنها تقلل من احتمالية عودة النزاعات، وتشجع على عودة المشاريع الاقتصادية وتدفق الاستثمارات، وهو ما ينعكس مباشرة على حياة المواطن. كما أن نجاح أي مسار سياسي أو انتخابات قادمة يظل مرهوناً بوجود حد أدنى من التوافق والمصالحة، لأن العملية الديمقراطية لا يمكن أن تستقر في ظل الانقسام وانعدام الثقة.
غير أن الطريق إلى المصالحة ليس سهلاً، فهناك تحديات كبيرة، من بينها تضارب المصالح بين القوى السياسية وانتشار الميلشيات، وغياب الثقة بسبب سنوات العنف، فضلاً عن التدخلات الخارجية التي تزيد المشهد تعقيداً، وضعف المؤسسات القادرة على إدارة ملف العدالة الانتقالية بفعالية.
ورغم هذه الصعوبات، تبقى الآفاق مفتوحة إذا ما توفرت الإرادة الوطنية، عبر إطلاق مؤتمر وطني جامع لا يستثني أحداً، وإنشاء هيئة مستقلة للمصالحة والعدالة الانتقالية، وتفعيل المصالحة المجتمعية على مستوى المدن والقبائل بالتوازي مع المسار السياسي. كما أن ربط جهود المصالحة ببرامج اقتصادية وتنموية سيجعل المواطن يلمس بشكل مباشر ثمار السلام.
في المحصلة، يمكن القول إن المصالحة الوطنية ليست مجرد بند ضمن أجندة الحلول المطروحة، بل هي الركيزة الأساسية لبناء ليبيا جديدة أكثر استقراراً وتماسكاً. فهي السبيل لطي صفحة الماضي المرير، وإعادة الاعتبار لمفهوم الدولة، وفتح الطريق أمام مرحلة من التنمية المستدامة، حيث يتحول الاختلاف إلى مصدر تنوع وقوة، لا إلى وقود يغذي الصراع.
يمكن قراءة الخبر من المصدر من هنا