مع استحواذ شركة “نايل فالي” الإماراتية على شركة بسكو مصر تعود إلى الواجهة تساؤلات جوهرية طالما أُثيرت في صفقات مماثلة. والسؤال هو: كيف تم بيع شركة بسكو مصر في عام 2025 بقيمة 241 مليون جنيه مصري وبما يساوي أقل من 48 مليون دولار أمريكي.
بينما نفس الشركة (بسكو مصر) كانت مطلوبة للشراء من جانب شركة كيلوج الأمريكية بحينها 125 مليون دولار قبل عشر سنوات وحتى بالجنيه المصري كان هذا المبلغ يساوي في ذلك الوقت أكثر من مليار و250 مليون جنيه.
والسؤال الثاني: كيف يمكن الموازنة بين جذب الاستثمار الأجنبي الحيوي والحفاظ على علامات تجارية تحمل قيمة رمزية وارتباطًا وجدانيًا عميقًا لدى الشعوب؟
وهل يمكن التعامل مع هذه الأصول، التي تتجاوز قيمتها المادية، بنفس منطق الأصول المالية التقليدية البحتة؟
تُعد بسكو مصر مثالًا صارخًا لهذه الظاهرة في سياق السوق المصري، حيث تمثل أكثر من مجرد شركة بسكويت؛ إنها جزء من الذاكرة الجماعية والذوق العام المصري.
بسكو مصر من التأسيس إلى الخصخصة.. قصة في قلوب المصريين
كانت منتجات “بسكو مصر” حاضرة بقوة في مشهد الحياة اليومية للمصريين، خاصةً منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى التسعينيات.
فمن طفل صغير يخرج من المدرسة ممسكًا بقطعة بسكويت، إلى طاولة إفطار أسري في صباح شتوي، أو حتى في حقيبة موظف يبحث عن وجبة سريعة، وحتى في مشروع تغذية أطفال المدارس كانت بسكو مصر بقوة في يد كل طفل
تأسست “بسكو مصر” عام 1957، مع تداعيات برنامج التأميم المصري، وعُرفت آنذاك بـ “الشركة المصرية للأغذية”.
كان هدف بسكو مصر الأساسي تزويد مدارس وزارة التربية والتعليم بوجبات خفيفة، مغذية وسريعة. لكن الشركة سرعان ما تحولت إلى عملاق وطني في عالم البسكويت والحلويات، وباتت منتجاتها تشكّل حضورًا دائمًا في كل بيت مصري.
شهدت الشركة أولى خطوات الخصخصة في عام 1999، عبر بيع حصة أولية لمستثمر خاص، دون تغيير فعلي في إدارتها. إلا أن التحول الجذري جاء في عام 2005، حين تم بيعها بالكامل للقطاع الخاص، ليبدأ فصل جديد من التغيير الإداري والهيكلي.
بسكو مصر صراع الاستحواذ.. حين تتحول الرمزية إلى أرقام
في عام 2014 دخلت الشركة مزاد استحواذ محتدمًا بين شركتي “أبراج كابيتال” الإماراتية و”كيلوج” الأمريكية.
شهدت هذه الصفقة ما يشبه حرب أسعار بدأت عند 73.9 جنيهًا للسهم، وبلغت ذروتها بعرض “كيلوج” النهائي عند 89.86 جنيهًا، متفوقةً على عرض “أبراج” البالغ 88.09 جنيهًا.
تجاوزت قيمة الصفقة آنذاك مليار جنيه مصري، ما عادل حينها 125 مليون دولار. هذا الصراع الدولي عكس بوضوح المكانة والقيمة السوقية والرمزية التي كانت تتمتع بها “بسكو مصر” وقتها.
اليوم، وبين أرقام الصفقات ومفاوضات الاستحواذ، تدخل هذه العلامة التجارية التاريخية فصلًا جديدًا، بعد استحواذ شركة “نايل فالي” الإماراتية عليها في صفقة مالية عبر سوق الصفقات المفتوحة بالبورصة المصرية بقيمة 241 مليون جنيه مصري.
هذا الرقم يبدو باهتًا مقارنةً بما شهدته الشركة قبل عشر سنوات فقط، حيث كانت في قلب صراع استثماري دولي يعكس مكانتها وقيمتها السوقية والرمزية.
الاستثمار في الذوق العام: تحديات ومعضلات
إن صفقة الاستحواذ الجديدة، التي لا تتجاوز قيمتها السوقية 241 مليون جنيه، تعني أن الشركة تُباع اليوم بأقل من ربع قيمتها المقدرة قبل عشر سنوات، بعد احتساب التضخم وتغير قيمة الجنيه المصري.
خلال السنوات الأخيرة، تراجعت أرباح الشركة بشكل واضح، بل وسجلت الشركة خسائر متتالية في بعض الفصول. أظهرت القوائم المالية في نهاية عام 2023 خسائر بلغت نحو 66.3 مليون جنيه، مقارنةً بخسائر بلغت نحو 446 مليون جنيه في عام 2022.
لقد أثار هذا التراجع تساؤلات حول المسار الذي سلكته شركة ذات إرث محلي وشعبية واسعة، لتحول إلى كيان يبحث عن مشترٍ بسعر بخس لا يعكس لا تاريخها ولا ما تمثله وجدانيًا لملايين المصريين.
العاطفة في قائمة الأرباح والخسائر: ما بعد الأرقام
من المؤكد أن تدفق الاستثمارات إلى قطاع الأغذية المصري يحمل فرصًا كبيرة للنمو والتحديث. ولكن التحدي الحقيقي يكمن في الحفاظ على خصوصية المنتج المصري، ليس فقط بوصفته الصناعية، بل بنكهته الثقافية والتاريخية.
رأس المال قادر على تحسين خطوط الإنتاج، وتوسيع الأسواق، ورفع الكفاءة. لكن هل يستطيع الحفاظ على العلاقة العاطفية بين المواطن والمنتج؟ هذه العلاقة التي يصعب قياسها في تقارير الأرباح والخسائر، لكنها تؤسس لانتماء أعمق من مجرد الاستهلاك.