في خطوة مفاجئة تمثل انفراجة في أكثر النزاعات الاقتصادية تعقيداً في العصر الحديث، أعلنت الولايات المتحدة والصين خفضاً مؤقتاً للرسوم الجمركية المتبادلة، مما يمهّد الطريق لمرحلة جديدة من الحوار ويمنح العالم استراحة من التوترات التجارية التي أثقلت كاهل الاقتصاد العالمي لسنوات.
جاء الإعلان في بيان مشترك صدر من جنيف، خلال مؤتمر صحفي حضره مسؤولون رفيعو المستوى من الجانبين، مؤكدين أن الاتفاق المؤقت يستهدف تهدئة الأسواق ومنح مفاوضي البلدين مهلة مدتها ثلاثة أشهر لإيجاد حلول دائمة للخلافات العميقة.
وبموجب الاتفاق، ستقوم الولايات المتحدة بخفض رسومها الجمركية على معظم الواردات الصينية من نسبة 145% إلى 30%، بما في ذلك المنتجات المرتبطة بمادة الفنتانيل، اعتباراً من 14 مايو. من جهتها، تعهدت بكين بخفض رسومها على السلع الأمريكية من 125% إلى 10%، وهو ما اعتبره مراقبون “تنازلاً دبلوماسياً” من الطرفين في آنٍ واحد.
إشارات إلى رغبة في إبقاء الروابط الاقتصادية
وقال وزير الخزانة الأميركي، سكوت بيسينت، خلال المؤتمر الصحفي: “أجرينا مناقشة قوية ومثمرة بشأن الخطوات المستقبلية المتعلقة بالفنتانيل. نحن متفقون على أن أياً من الطرفين لا يرغب في فك الارتباط”. وأضاف أن الطرفين قررا إنشاء آلية جديدة لمواصلة النقاش حول القضايا الاقتصادية والتجارية، مما يعكس إدراكاً مشتركاً لأهمية الحفاظ على الاستقرار في العلاقات الثنائية.
من جانبه، شدد ممثل التجارة الأميركي، جيميسون غرير، على أن الهدف الرئيسي للولايات المتحدة هو تحقيق تجارة أكثر توازناً مع الصين، وهو ما يعكس مطلباً أميركياً متكرراً في ظل تفاقم العجز التجاري الأميركي مع بكين خلال السنوات الأخيرة.
الأسواق ترحب والأنظار تتجه إلى المستقبل
شهدت الأسواق المالية استجابة فورية للبيان، حيث ارتفعت الأسهم الصينية لتعويض خسائرها الأخيرة، وارتفع عائد السندات الأميركية لأجل 10 سنوات إلى أعلى مستوياته خلال شهر. واعتبر بعض المحللين أن هذه المؤشرات تعكس “تفاؤلاً حذراً” بأن هدنة حقيقية قد تكون قيد التشكّل.
ورغم أن البيت الأبيض وصف الاتفاق بأنه “اتفاق تجاري مبدئي”، إلا أن الغموض لا يزال يكتنف تفاصيله، خصوصاً بشأن مطالب الصين بإزالة الرسوم بالكامل، وهو مطلب لا يتماشى مع المساعي الأميركية المستمرة لتقليص العجز التجاري.
تحذيرات من منظمة التجارة العالمية
ورغم الأجواء الإيجابية، حذّرت المديرة العامة لمنظمة التجارة العالمية، نغوزي أوكونجو إيويالا، من أن الحرب التجارية بين البلدين قد تتسبب في تراجع يصل إلى 80% في التجارة الثنائية وتمحو نحو 7% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي على المدى الطويل إذا استمرت النزاعات.
وأضافت أن الحرب التجارية لا تهدد فقط الاقتصادين الأكبر في العالم، بل تفتح الباب أمام “تجزئة خطيرة” للنظام التجاري العالمي، وتقسيمه إلى تكتلات متنافسة تتمحور حول واشنطن وبكين.
سوابق تاريخية وتوجس من تكرار السيناريوهات
يشير التاريخ القريب إلى أن مثل هذه التفاهمات المؤقتة ليست بالضرورة نهاية للنزاع، إذ سبق للطرفين في 2018 أن توصلا إلى اتفاق مشابه، قبل أن تنهار المفاوضات لاحقاً وتُستأنف الحرب التجارية على نطاق أوسع، استمرت حتى توقيع اتفاق “المرحلة الأولى” في يناير 2020، والذي لم يُنفذ بالكامل من قبل الصين، وفقاً لبيانات أمريكية.
وتبقى المخاوف قائمة من تكرار السيناريو ذاته، في ظل ضغوط داخلية على الطرفين، وتصاعد الخطاب السياسي المتشدد في كل من واشنطن وبكين، بالتزامن مع اقتراب استحقاقات انتخابية كبرى.
لحظة اختبار جديدة للنظام الاقتصادي العالمي
في الوقت الراهن، يبدو أن الهدنة المؤقتة بين الولايات المتحدة والصين تمثل لحظة اختبار جديدة للنظام الاقتصادي العالمي. فالرهان لا يتعلق فقط بتخفيف الرسوم الجمركية، بل بإمكانية تجنب الانزلاق نحو نظام عالمي منقسم ومجزأ.
ومع دخول الاتفاق حيز التنفيذ خلال أيام، يترقب العالم تطورات الأشهر الثلاثة القادمة، التي قد تحدد مستقبل العلاقات التجارية بين أكبر قوتين اقتصاديتين، بل وربما مستقبل العولمة نفسها.