يحدث أن يكون الرجل ذا مقام بين قومه، شأنه شأن عمدة في قرية، أو رب أسرة تهابه أفراد عائلته وتوقره؛ ولأن لكل فرد ما يخاف منه ويكون ضعيفًا أمامه، كالخوف من الحكام، أو الخوف من الأموال مع الإصرار على جمعها وإنفاقها، أو حتى من الموت، أو الخوف الجليّ من الله – سبحانه وتعالى – لم أشهد خوفًا أصدق وأشد من خوف المحب على فراق محبوبته، التي قد تصل أحيانًا كثيرة إلى قبول الإهانة، وطاعته في المطلق إن كان المحبوب على حق أو على خطأ، فالمهم ليس الصواب والخطأ هنا، ولكنها الطاعة والخوف، الخوف الذي يفتك بقلوب الرجال صغارًا وكبارًا؛ مثال ذلك ما فعله “أبو نواس” وتولهه في حب جاريةٍ تسمّى “جنان”، وتكلّفَ أبو نواس – في بادئ الأمر – ما تكلف من الكتمان حتى ضاقت به الدنيا وضاق بما في صدره، وصار كالمغلوب على أمره حتى قال:
قد تصبّرت بالسكوت وبالإطراق جهدي، فنمَّتِ العينانِ
تركتني الوشاة نصب المثيرين وأحد وشيًا بكل مكانِ
ما أرى خاليين للسر إلا قلت ما يخلوانِ إلا لشانِي
واشتد به الأمر – بعد ذلك – في طلبها والقعود كل يوم على طريقها، وصارت شغله الشاغل، وعندما بعث لها رسولًا قالت منكرة: “ألم يبقَ لي غير أن أحبَ هذا الكلب” وسبته كلما ذكر عندها، بل ووتصفه بالمخنث؛ ولكنه لشدة حبه وخوفه من عدم وجودها، حتى ولو كان ذلك سيجلب له الإهانة، -المهم أن تذكره حتى ولو بالسب-، فقال:
أتاني عنكِ سبُّك لي فسُبّي
أليس جرى بفيكِ اسمي؟! فحسبي
وأيضًا في طاعة المحب حتى يصير الخوف عليه ليس منه ويصبح الحب أسمى وأجلّ، ما خَبَّر به “ابن حزم الأندلسي” في كتابه: طوق الحمامة في الألفة والألاف باب الطاعة، عن رجل يسمَّى “أبو عبدالله محمد بن كليب” من أهل قيروان، وكان طويل اللسان، مثقفا؛ وبعدَ ما جرى ذكر الحب ومعانيه قال الرجل: إذا كرِه من أحب لقائي، وتجنّب قربي، فماذا أصنع؟.
فقال ابن حزم: أرى أن تسعى في إدخال الروح على نفسك بلقائه حتى وإن كره.
فقال أبو عبدالله: لكني لا أرى ذلك، بل أوثر هواه على هواي ومراده على مرادي وأصبر ولو كان في ذلك حتفي.
وأتساءل، هل يجب أن يكون الخوف من الحب، والأفضل الخوف من غيره إذا لزم الخوف؟
وهل يجعل الحب المرء خائفًا طائعًا حد القبول بالمهانة، وبظلمه لنفسه؟
أم أجدر بالمرء أن ينتهج فلسفة لبيد بن ربيعة في قوله:
أولم تكن تدري نوار بأنني
وصّال عقد حبائلٍ جذَّامُها
تراكُ أمكنةٍ إذا لم أرضها
أو يعتلق بعض النفوس حِمامُها
أو عمر بن أبي ربيعة في قوله:
سلام عليها ما أحبت سلامنا
فإن كرهته فالسلام على أخرى