على خلفية المفاوضات المتعثرة بين الأطراف الليبية حول إدارة مصرف ليبيا المركزي، في العاصمة طرابلس، تعود المخاوف مجدداً حول احتمال انقسام هذه المؤسسة المالية الأكبر في ليبيا، بعد أقل من عام على توحيدها بدعم دولي وأممي. هذا التوحيد، الذي عُد إنجازاً كبيراً في أغسطس 2023، بات اليوم مهدداً بعد استمرار الصراع حول آليات إدارة المصرف والتداخل في الاختصاصات بين المؤسسات الليبية.
في أغسطس 2023، توحدت إدارتا مصرف ليبيا المركزي بعد جهود دولية وأممية مكثفة. هذا التوحيد جاء بعد سنوات من الانقسام، الذي خلفه الصراع السياسي في البلاد، حيث كانت هناك إدارتان متنافستان؛ واحدة في الغرب، وأخرى في الشرق. حينها، اعتُبر توحيد المصرف خطوة ضرورية لتحقيق الاستقرار المالي في ليبيا، وكان الهدف الأساسي هو إعادة بناء الثقة بين المؤسسات المالية الليبية.
لكن مع تعثر المفاوضات حول إدارة المصرف، وانعدام التوافق السياسي بين الأطراف المتصارعة، ظهرت مخاوف جدية من عودة الانقسام المالي مجدداً. المحلل السياسي الليبي، محمد امطيريد، يرى أن الانقسام المالي “أصبح حقيقة”، معتبراً أن “التعدي على المصرف المركزي من قبل سلطات طرابلس” أدى إلى تعميق الأزمة.
تواجه ليبيا اليوم أزمة سياسية تضاف إلى تعقيداتها المالية، حيث يشير امطيريد إلى أن “المجلس الرئاسي غير معني، قانونياً أو تشريعياً، بتغيير محافظ المصرف”. هذا التداخل بين السلطات المتعددة في البلاد يزيد من تعقيد الوضع. وفي حين كان المصرف المركزي جزءاً من المشهد السياسي منذ سنوات، إلا أن السيطرة عليه أصبحت محوراً رئيسياً للصراع بين الحكومة منتهية الولاية برئاسة عبد الحميد الدبيبة ومؤسسات الدولة في المنطقة الشرقية.
هذه السيطرة المتنازع عليها أثرت بشكل مباشر على الوضع الاقتصادي في البلاد، حيث تم إغلاق حقول النفط والموانئ احتجاجاً على قرارات المجلس الرئاسي بتعيين محافظ جديد للمصرف. يُذكر أن إغلاق النفط كان له تداعيات كبيرة على الاقتصاد الليبي، حيث تعتمد البلاد بشكل رئيسي على صادرات النفط لتمويل ميزانيتها.
تراجع قيمة الدينار أمام الدولار في السوق الموازية يمثل مؤشراً آخر على تفاقم الأزمة المالية. بلغ سعر الدولار في السوق السوداء 8.14 دينار، مقارنة بسعره في السوق الرسمية البالغ 4.74 دينار. هذا الانخفاض الكبير في قيمة العملة المحلية يثير مخاوف من تصاعد تأثير الأزمة على الحياة اليومية للمواطنين الليبيين.
يعتقد المحللون أن هذا الانهيار في قيمة الدينار هو “سابقة لم تحدث من قبل”، مما يضيف ضغوطاً جديدة على الشعب الليبي الذي يعاني من ارتفاع أسعار السلع الأساسية ونقص المخزون السلعي من الغذاء والدواء.
الصراع الدائر حول المصرف المركزي لا يتعلق فقط بالسيطرة على تدفق الأموال، بل يمتد ليشمل النفط، المورد الأساسي للاقتصاد الليبي. الخبير الاقتصادي محمد الشحاتي، يرى أن “التقسيم الحالي للنفوذ داخل المصرف المركزي ليس متوازناً مع معطيات الواقع”. هذا الوضع يخلق بيئة غير مستقرة ويزيد من المخاطر المتعلقة بتدفق الأموال والنفط.
بدأ الصراع على المصرف المركزي عندما أصدر رئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، قراراً بإزاحة المحافظ الصديق الكبير وتعيين محافظ جديد بشكل مؤقت. هذا القرار قوبل برفض قاطع من الحكومة الليبية برئاسة أسامة حماد، التي سارعت بإغلاق حقول النفط في رد فعل مباشر.
مع استمرار الأزمة المالية والسياسية، يخشى العديد من الليبيين أن تؤدي هذه الأوضاع إلى تقسيم البلاد إلى دويلات متعددة. امطيريد يرى أن “تداعيات الانقسام المتوقع ستعني تقسيم الإيرادات المالية بين المناطق الثلاث: طرابلس، فزان، وبرقة”، مما قد يؤدي إلى تشكيل حكومات محلية في الشرق والغرب والجنوب.
المخاوف من تقسيم ليبيا ليست جديدة، فقد أعربت العديد من الدول والمنظمات الدولية عن قلقها من تفاقم الأزمة. الاتحاد الأوروبي وسفراؤه في ليبيا كانوا من بين الأطراف التي عبرت عن خشيتها من تقسيم مؤسسات الحكم في البلاد، ودعت جميع الأطراف الليبية إلى “تقديم الدعم الحقيقي لجهود البعثة الأممية في تعزيز الاستقرار”.
لكن، على الرغم من هذه المخاوف، فإن السلطات الحاكمة في ليبيا ما زالت تستبعد حدوث أي تقسيم. وقد أبدت بعض القوى الدولية دعمها لمحاولات الحل السياسي، لكنها لم تستطع حتى الآن تقديم الحلول الناجعة التي تمنع انقسام ليبيا إلى دويلات.
في ختام هذا الصراع الدائر حول المصرف المركزي، يبقى السؤال الرئيسي: ما هو مستقبل هذه المؤسسة في ظل التحديات السياسية والاقتصادية الراهنة؟ يعتقد الشحاتي أن “المستقبل يعتمد بشكل كبير على قدرة الأطراف السياسية على التوصل إلى حلول توافقية”، محذراً من أن “الخطأ في اختيار ممثلي المصرف أو الحلفاء الدوليين قد يؤدي إلى فقدان أي طرف للمبادرة، وربما السقوط من العملية السياسية برمتها”.
وسط هذه التحديات، تظل ليبيا في حالة ترقب لما قد تسفر عنه الأيام المقبلة، سواء من حيث تداعيات الانقسام المالي المتوقع أو تأثيره على الوحدة الوطنية واستقرار البلاد.