في تحليل شامل للوضع الليبي، ألقى الكاتب والمحلل السياسي مصطفى الفيتوري الضوء على سلسلة الأزمات التي تعصف بالبلاد منذ أحداث 2011. وعلى مدار ثلاثة عشر عامًا، أصبحت الأزمات السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية أمرًا طبيعيًا في ليبيا، مما جعل الوضع الداخلي هشًا وقابلًا للانفجار في أي لحظة. الفيتوري يشير إلى أن حتى الأزمات الصغيرة أو التافهة يمكن أن تتسبب في اشتعال فتيل الصراع، خاصة في ظل التوترات المستمرة بين المليشيات المتنافسة في طرابلس.
من بين أهم القضايا التي تواجه ليبيا اليوم هي أزمة مصرف ليبيا المركزي، الذي كان يُعتبر المؤسسة الوحيدة المعترف بها دوليًا رغم الانقسامات العميقة التي طالت كل جوانب الحياة في ليبيا. المصرف كان يلعب دورًا محوريًا في تمويل الأطراف المتصارعة، حتى عندما كانت هذه الأطراف تواجه بعضها البعض بالسلاح في ساحات المعارك. لكن المفارقة الكبرى تكمن في أن كل طرف يعتبر الآخر غير شرعي وغير قانوني، رغم أن أيا من الحكومات المتصارعة لم يتم انتخابها بشكل فعلي في ليبيا منذ الإطاحة بنظام القذافي.
منذ عام 2011، يواجه الليبيون أزمة حادة في السيولة النقدية. وبالرغم من تزايد الأزمات الاقتصادية، لم يتمكن المصرف المركزي من معالجة هذه المعضلة التي تضرب أساس الاقتصاد الليبي. الفيتوري يُحمل الصديق الكبير، المحافظ الحالي للمصرف، مسؤولية هذا الفشل المستمر في توفير السيولة وتحديث النظام المصرفي. ويعزو الفشل إلى الدمار الواسع الذي لحق بالبنية التحتية الليبية خلال الغارات التي شنها حلف الناتو في 2011، مما أثر بشكل مباشر على قدرة البنوك على تقديم خدماتها للمواطنين والشركات.
تفاقمت أزمة السيولة بسبب عدم توفر أدوات دفع إلكترونية في البلاد. حتى أن أجهزة الصراف الآلي، والتي تُعد من الأساسيات في أي نظام مصرفي، نادرة الوجود في العاصمة طرابلس. هذه النواقص جعلت الاقتصاد الليبي يعتمد بشكل شبه كلي على المدفوعات النقدية، وهو ما زاد من حدة الأزمة الاقتصادية، خاصة في ظل غياب الاستقرار السياسي والأمني. الفيتوري ينتقد هذه الحالة ويرى أن الصديق الكبير لم يحقق أي تحسينات ملحوظة في هذا المجال.
في خضم هذه الفوضى، يأتي قرار المجلس الرئاسي بإقالة الصديق الكبير ليزيد الوضع تعقيدًا. الفيتوري يشير إلى أن هذا القرار يعد مخالفة واضحة للاتفاق السياسي، لكنه يتساءل: لماذا يجب على أي جهة احترام القانون في بلد باتت الفوضى فيه هي القانون السائد؟ لم يكن المفترض أن يلعب المصرف دورًا سياسيًا، ومع ذلك، أصبح المصرف المركزي جزءًا من الصراع السياسي المستمر بين الأطراف المتناحرة في ليبيا.
من بين العوامل التي تزيد من تعقيد الوضع الليبي، تأتي التدخلات الأجنبية المستمرة التي تعرقل أي محاولة لتنظيم انتخابات تُعيد الشرعية للمؤسسات الليبية. الفيتوري يشير بشكل خاص إلى دور كل من بريطانيا وأمريكا في تعطيل انتخابات 2021، وهو ما يعكس مدى تأثير القوى الخارجية في المشهد السياسي الليبي. ويرى أن الأزمة المصرفية هي مجرد قمة جبل الجليد، وأن تجديد شرعية جميع المؤسسات الليبية من خلال انتخابات نزيهة وشفافة هو أمر حتمي لاستقرار البلاد، لكنه لن يحدث إلا إذا توقفت هذه التدخلات الدولية.
في ختام تحليله، يؤكد الفيتوري أن أزمة المصرف المركزي توفر فرصة سانحة لتسوية جميع الخلافات الكبرى التي تعوق تنظيم الانتخابات. يجب أن يتم اختيار حكومة مؤقتة تشرف على العملية الانتخابية، وأن يقبل جميع الأطراف نتائج هذه الانتخابات طالما كانت نزيهة وشفافة. هذه الخطوات، في نظر الفيتوري، هي المفتاح لإخراج ليبيا من مأزقها الحالي، لكن نجاحها يعتمد على قدرة الليبيين على التفاهم ووضع مصلحة البلاد فوق المصالح الشخصية والفئوية.