في ظل الاضطرابات المالية التي تشهدها ليبيا، صعّدت السلطات الأمنية في العاصمة طرابلس حملتها لمواجهة المضاربات على الدولار في “السوق السوداء”. كانت أولى الخطوات الحاسمة بإغلاق محال بيع وشراء العملات الأجنبية في سوق المشير، أحد أشهر الأسواق بالعاصمة، والتي تعتبر القلب النابض لتبادل العملات الأجنبية. جاء هذا الإجراء بعد يومين فقط من مطالبة محمد الحويج، وزير الاقتصاد والتجارة بحكومة الدبيبة منتهية الولاية، بتدخل حازم لمنع المضاربة بالدولار، في محاولة لإعادة الاستقرار إلى سعر الصرف المنهار.
إن تراجع سعر صرف الدينار مقابل الدولار في السوق السوداء إلى أكثر من 8 دنانير، يعكس أزمة أعمق من مجرد مضاربة على العملات. فالأزمة الحقيقية تكمن في الصراع السياسي الحاد بين جبهتي شرق ليبيا وغربها، حيث يقود كل طرف معركة للاستحواذ على قيادة المصرف المركزي. هذا الصراع أدى إلى تعطيل إنتاج وتصدير النفط، وهو المصدر الرئيسي للعملة الأجنبية في البلاد. تعطل النفط بدوره زاد من تدهور الوضع المالي، مما دفع المواطنين إلى الاعتماد بشكل أكبر على السوق السوداء لتلبية احتياجاتهم من العملات الأجنبية.
سوق المشير، الذي يعد من أقدم وأهم الأسواق في طرابلس، هو المكان الرئيسي الذي يلجأ إليه السماسرة والمواطنون يوميًا لتبادل العملات الأجنبية. إلا أن قرار السلطات بإغلاق هذا السوق أثار جدلاً واسعاً، خاصة بين المحللين الاقتصاديين الذين يرون أن هذا الإجراء لن يؤدي إلى حل جذري للأزمة. مقاطع الفيديو التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي أظهرت المحال المغلقة وسط احتجاجات المواطنين، أكدت على حجم الإحباط السائد بين العامة. الكثيرون يرون أن هذه الخطوة قد تكون محاولة لإخماد نيران الأزمة ولكنها لن تقضي عليها.
الخبير الاقتصادي مختار الجديد عبر عن استيائه من هذا الإجراء، مشيرًا إلى أن “سوق المشير ليس مجرد مركز مضاربات، بل هو جزء أساسي من حركة الحياة في البلاد”. وأضاف أن إغلاق السوق قد يخنق الاقتصاد أكثر مما يعالجه، فالدولار أصبح بمثابة شريان الحياة للعديد من المواطنين الذين يعتمدون عليه في أعمالهم ومعيشتهم اليومية.
من جانبه، أشار الخبير الاقتصادي محمد أبو سنينة إلى أن “إغلاق سوق المشير لا يعني نهاية المضاربة بالدولار أو السيطرة على الأسعار”. يرى أبو سنينة في تصريحات صحفية رصدتها “أخبار ليبيا 24” أن هذه العمليات ستستمر في الخفاء، سواء في البيوت أو المقاهي أو عبر شركات الصرافة غير المرخصة. طالما أن المصارف التجارية عاجزة عن توفير العملات الأجنبية، فإن المواطنين سيظلون يلجأون إلى طرق بديلة للحصول على الدولار، مما يعزز من ارتفاع الأسعار.
مع تزايد الضغوط الاقتصادية واستمرار الانقسام السياسي، تزداد المخاوف من التأثيرات السلبية على حياة المواطنين. ليبيا تعتمد بشكل كبير على النفط كمصدر رئيسي للعملة الأجنبية، وتعطل الإنتاج النفطي أدى إلى نقص كبير في العملة الأجنبية المتداولة، مما أثر على الاستيراد وأسعار السلع الأساسية. الانقسام حول قيادة المصرف المركزي يعقد الأمور أكثر، حيث ترفض الحكومة الليبية برئاسة أسامة حماد الاعتراف بالمحافظ الجديد المعين من قبل طرابلس، وتصر على إغلاق الحقول والموانئ النفطية.
في ظل هذا الوضع المعقد، دعا بعض المحللين إلى حلول أكثر شمولاً بدلاً من إغلاق الأسواق. محمد أبو سنينة اقترح تنظيم مكاتب وشركات الصرافة وإخضاعها لإشراف المصرف المركزي، كما هو الحال في العديد من دول العالم. يرى أن السماح لهذه الشركات بالعمل بشكل قانوني وتحت الرقابة يمكن أن يساهم في استقرار السوق وتوفير العملات الأجنبية بشكل منظم. الوضع الحالي، حيث تعمل العديد من محال الصرافة دون ترخيص رسمي، يعزز من التشوهات في سوق العملات ويزيد من تعقيد الأزمة.
الاقتصاد الليبي مرهون بشكل كبير بتطورات الصراع السياسي والوضع النفطي. حتى يتم التوصل إلى حل ينهي الأزمة الحالية حول المصرف المركزي، سيظل الاقتصاد في حالة من التراجع المستمر. الأزمة الاقتصادية تعكس عمق الانقسام السياسي، حيث كل طرف يسعى لتعزيز مواقفه على حساب استقرار البلاد. في الوقت الذي ينتظر فيه الليبيون حلولا جذرية تعيد لهم استقرارهم المالي، تظل القرارات المؤقتة مثل إغلاق سوق المشير مجرد مسكنات قصيرة الأجل لأزمة قد تمتد لفترة أطول.