إدارة الصديق الكبير الفردية وأزمة السيولة الليبية: مداخلة تحليلية
في مداخلة تلفزيونية تابعتها “أخبار ليبيا 24“، تحدث عضو مجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي سابقًا، امراجع غيث، حول الأزمة المالية التي تجتاح البلاد، وأشار بأصابع الاتهام إلى سياسات الصديق الكبير، محافظ المصرف المركزي سابقًا، معتبرًا إدارته الفردية السبب الرئيسي وراء أزمة السيولة التي يعاني منها الليبيون اليوم. بلهجة لا تخلو من التحليل والتشريح العميق، ألقى غيث الضوء على العديد من الممارسات التي، حسب رأيه، قادت الاقتصاد إلى حافة الهاوية.
بدأ غيث بملاحظة أن الصديق الكبير قد تصرف على مدى سنوات وكأنه رئيس دولة وليس محافظًا لمصرف مركزي. فقد أصبح يتعامل مع الوزراء والسفراء وكأنه الحاكم الفعلي، متجاهلًا دوره المالي التقني. هذه التصرفات، بحسب غيث، أضرت بالنظام المالي الليبي، وساهمت في إرباك مسار الاقتصاد، مما تسبب في العديد من الأزمات التي تراكمت حتى وصلت إلى أزمة السيولة الحالية.
أوضح غيث أن السيولة النقدية بدأت في التقلص بشكل ملحوظ عندما رفض الكبير فتح الاعتمادات للشركات. وبدلًا من توفير الدعم الاقتصادي عبر تلك الاعتمادات، فضل الصديق الكبير اتباع سياسات اقتصادية شديدة الانغلاق. “السيولة في متناول اليد، ولكنها تحتاج إلى ثقة رجال الأعمال واستقرار النظام المالي”، هكذا وصف غيث الوضع مشددًا على أهمية تشديد الرقابة على المصارف، التي كانت تمر بمرحلة من الفوضى المالية.
أحد القرارات التي كانت موضع انتقاد من غيث هو ما يسمى بمنحة أرباب الأسر، التي قدمت للأسر الليبية على شكل عملة أجنبية. يقول غيث إنه كان يمكن تقديم تلك الأموال بالعملة المحلية، وبنفس القيمة، مما كان سيعزز الدينار الليبي ويمنع تكوين السوق الموازية القوية التي تعاني منها ليبيا اليوم. إذ استغلت المنحة بطريقة ساعدت في انتشار السوق السوداء، وعمّقت من الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق الموازية للعملة.
في حديثه عن الضريبة المفروضة على سعر الصرف، انتقد غيث الطريقة التي تم بها تطبيق تلك الضريبة، التي فرضت بشكل مفاجئ ودون تحضير تدريجي، حيث قفزت من لا شيء إلى 27% في يوم وليلة. كان بإمكان الحكومة، بحسب غيث، فرض تلك الضريبة تدريجيًا، بحيث ترتفع بنسبة 5%، ثم 10%، وصولًا إلى الهدف، لكن ما حدث أدى إلى زيادة غير مبررة في الأسعار، مما أثقل كاهل المواطن العادي.
رغم كل الأزمات، يبدو أن امراجع غيث لا يرى أن الاقتصاد الليبي محكوم عليه بالفشل. “المورد الأساسي موجود”، يقول غيث، مشيرًا إلى النفط الليبي الذي يعتبر القاعدة الاقتصادية التي يمكن البناء عليها. إلا أن الحل لن يكون سهلًا. يجب إعادة الثقة برجال الأعمال الليبيين وتشجيعهم على إعادة أموالهم إلى المصارف، مع ضرورة فتح الاعتمادات بمرونة وسرعة.
أشار غيث أيضًا إلى أن المراجعة المالية الدورية ضرورية، وخاصة مراقبة الشركات التي تتلقى الاعتمادات، لمعرفة إذا ما كانت تلك الشركات تلتزم باستيراد البضائع المطلوبة أو لا. كما انتقد غياب الحوافز للتجار الذين يستجيبون لمتطلبات النظام المالي، حيث يعتمد النظام الحالي على العقوبات فقط دون تقديم حوافز تشجع التجار على الامتثال.
يتفق غيث على أن تمويل الميزانية يمثل مشكلة كبيرة للحكومات الليبية المتعاقبة. فقد اعتمدت تلك الحكومات على إيرادات النفط دون البحث عن مصادر دخل بديلة أو تحصيل الضرائب. يرى غيث أن الحل يكمن في تنويع مصادر الإيرادات وترشيد الإنفاق. كما شدد على أن الإنفاق الحكومي المفرط هو العائق الرئيسي أمام استقرار سعر الصرف، معتبرًا أن رفع أو خفض سعر الصرف لا قيمة له ما لم تتم معالجة تلك المشكلة.
اختتم غيث حديثه بتحذير واضح من أن الإدارة الجديدة للمصرف المركزي ستواجه نفس التحديات التي واجهتها الإدارة السابقة إذا لم تغيّر من نهجها. سيكون أمامها معضلة الميزانية، ومواجهة السياسات النقدية المتخبطة. كما أكد على ضرورة التنسيق بين السياسة المالية والسياسة النقدية، مشيرًا إلى أن أي تغيير في سعر الصرف لن يكون فعالًا إذا استمر الإنفاق الحكومي بلا حدود أو تنظيم.
وفيما يتعلق بتحذيرات الصديق الكبير من شبح إفلاس ليبيا، لم يتردد غيث في استخدام المثل الليبي الشهير “البذار عارف إيش طالع من إيده”، في إشارة إلى أن الكبير يعرف تمامًا ما أدت إليه سياساته المالية. ومع ذلك، يظل غيث متفائلًا بإمكانية إصلاح الاقتصاد الليبي، شرط أن يتم تنظيمه بشكل جيد، والقضاء على تجارة العملة والتهريب، والأنشطة غير القانونية.