ما بين أطلال المدن الليبية وجدران الذاكرة الجماعية، تتواصل عملية الكشف عن المزيد من ضحايا الصراعات والمآسي الإنسانية. تُلقي هذه المكتشفات الضوء على حجم الألم الذي خلّفته سنوات من الانفلات الأمني والانقسام السياسي، حيث باتت المقابر الجماعية عنوانًا صارخًا لمعاناة الشعب الليبي وآلام المهاجرين العابرين للأراضي الليبية. في هذا السياق، أعلنت الهيئة العامة للبحث والتعرف على المفقودين عن استخراج تسع جثث جديدة في مقبرة بمنطقة تاجوراء غرب طرابلس، مما يعيد إلى الواجهة التساؤلات حول مصير المفقودين ودور الأجهزة الرسمية في مواجهة هذه المأساة.
كشف مدير مكتب الإعلام بالهيئة العامة، عبدالعزيز الجعفري، في تصريحات صحفية رصدتها “أخبار ليبيا 24″، عن جهود الهيئة بالتعاون مع إدارة الطب الشرعي وإدارة الرفات، حيث جرى أخذ 45 عينة من 15 جثمانًا، ليتم تحليلها في المختبرات المتخصصة. تأتي هذه العملية ضمن خطة موسعة تهدف إلى الكشف عن هويات الضحايا وتقديم إجابات للآلاف من العائلات الليبية التي تعيش في حالة من الترقب المستمر لمصير أحبائها المفقودين.
ويعد العمل على مطابقة الحمض النووي لكل جثة خطوة أساسية في مسار البحث، خاصة مع تعقيد طبيعة هذه الحالات نتيجة تداخل عوامل متعددة تشمل النزاع المسلح والجريمة المنظمة. ويواجه الجهاز تحديات كبرى في تحقيق مهمته، سواء من ناحية الموارد المالية أو البنية التحتية المتهالكة، التي تعيق أحيانًا استكمال عمليات التحليل والنقل والتوثيق.
ليس مجرد عدد الجثث المكتشفة هو الذي يثير التساؤلات، بل أيضًا مصائر الأشخاص التي تقف خلفها هذه الأرقام. فمن خلال العثور على 22 جثة في منطقة الكامبو بسرت، وما تلا ذلك من دفن لـ 59 جثة في مقبرة أبو رويلة، تُسجل ليبيا نقاطًا جديدة في تاريخها المظلم من المفقودين وضحايا الحرب والصراع. ويشير لطفي المصراتي، مدير إدارة البحث عن الرفات بالهيئة، إلى أن جهود البحث لا تزال مستمرة، مما يشير إلى حجم الأزمة وتعقيداتها المتواصلة.
إلى جانب الجانب الإنساني، تطرح هذه الاكتشافات أسئلة ملحّة حول دور السلطات المحلية والدولية، إذ أصبحت المقابر الجماعية رمزًا للانفلات الأمني وتداعيات غياب الحكومة المركزية القوية في ليبيا منذ العام 2011. كما أشار المصراتي في تصريحات صحفية رصدتها “أخبار ليبيا 24″، إلى أن العمل جارٍ على أخذ عينات من الحمض النووي لـ70 حالة في مستشفى ابن سينا، مؤكداً أن بعض المقابر الأخرى قد تُكتشف قريبًا في نفس المنطقة.
كشفت تصريحات المصراتي عن مقبرة جماعية في الشويرف، عُثر فيها على 65 جثة لمهاجرين غير شرعيين دُفنوا في وادٍ بعيد عن الأنظار. يأتي هذا الاكتشاف في ظل وضع مأساوي لآلاف المهاجرين الذين يعبرون الأراضي الليبية طمعًا في الوصول إلى أوروبا، حيث يواجهون مخاطر الاستغلال والعنف على يد شبكات التهريب والاتجار بالبشر. تعمل هذه الشبكات في بيئة مضطربة تعززها الانقسامات السياسية، وتسمح لعصابات وميليشيات مختلفة بممارسة أعمالها دون رادع.
كما تُظهر تقارير دولية، أبرزها تقرير بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة، وجود مقابر جماعية في منطقة بني وليد الصحراوية، حيث أفادت شهادات نساء أفريقيات بتعرضهن للاعتداء الجنسي. يؤكد ذلك الأبعاد الأخلاقية والإنسانية المظلمة لهذا الملف، حيث يمتزج الموت بالاستغلال وتُسحق كرامة الضحايا في دوامة العنف والجريمة.
فتحت السلطات الأمنية تحقيقات واسعة بعد اكتشاف هذه المقابر الجماعية، في محاولة لتحديد هوية الضحايا والجهات المسؤولة عن هذه الانتهاكات. إلا أن التحدي الأساسي يكمن في مواجهة التباطؤ في جمع الأدلة وتأمينها، خاصة مع تزايد عدد الضحايا وصعوبة تحديد أسباب الوفاة الحقيقية في ظل الوضع الأمني الهش.
وتثير هذه التحقيقات تساؤلات حول إمكانية تحقيق العدالة ومعاقبة المتورطين، في وقت تعاني فيه ليبيا من حالة انقسام سياسي تقوّض المؤسسات الرسمية. وتظل مسألة دفن الجثث وتنظيم عملية التعرف عليها بحاجة إلى تدابير مدروسة تتجاوز العقبات الإدارية والمالية التي تلاحق الهيئة.
تستمر فرق البحث في الهيئة بالعمل على الكشف عن مقابر جديدة في ليبيا، حيث تشير تقديرات حقوقية إلى أن العدد الفعلي للضحايا والمفقودين قد يكون أعلى بكثير مما هو معلن. وتبقى هناك دعوات لضرورة توفير دعم دولي لهذه الجهود، من أجل تحقيق تقدم ملموس في هذا الملف الذي يعكس مأساة ليبيا وتداعيات الصراع المستمر منذ أكثر من عقد من الزمن.
في ظل هذا السياق المأساوي، تصبح المقابر الجماعية عنوانًا واضحًا على حجم التحديات التي تواجهها ليبيا في طريقها نحو الاستقرار والمصالحة الوطنية. فالضحايا، سواء كانوا ليبيين أو مهاجرين، يحملون قصصًا دفنت معهم، لا تعرفها إلا عائلاتهم التي تنتظر بيأس عودة الأحبة أو التعرف على هوياتهم.
تظل المقابر الجماعية، رغم التحديات، أملًا ضئيلاً لآلاف العائلات التي تبحث عن الحقيقة وتنتظر الكشف عن مصائر أحبائها المفقودين. وفي هذا المسار، تتضافر جهود الفرق المتخصصة مع دعم المجتمع الدولي من أجل مواجهة مأساة إنسانية عميقة الجذور، تروي قصة وطن يكافح لاستعادة كرامته وإنسانيته المدفونة تحت الأنقاض.