توقع صندوق النقد الدولي أن تتصدر ليبيا قائمة الدول العربية من حيث معدل النمو الاقتصادي عام 2025، بنسبة نمو 13.7%. هذه التوقعات ترفع سقف الآمال بمستقبل اقتصادي مشرق، ولكن في ظل اعتماد ليبيا على قطاع النفط واستمرار الانقسام السياسي، تتعدد التساؤلات حول ما إذا كانت هذه التوقعات قابلة للتحقيق فعليًا.
تضمن تقرير صندوق النقد الدولي الأخير أن ليبيا قد تحقق تقدمًا اقتصاديًا بفضل استئناف إنتاج النفط وتعافي القطاع النفطي بعد أزمة المصرف المركزي. يضع التقرير توقعات متفائلة بأن النمو قد يصل إلى 13.7% بحلول 2025، وهو ما يمثل نقلة نوعية لدولة تعاني من أزمات هيكلية منذ سنوات.
تشكل العائدات النفطية نحو 97% من إيرادات ليبيا، ويعتمد الاقتصاد الليبي بشكل شبه كامل على النفط والغاز. لكن مع غياب التنويع الاقتصادي وضعف القطاعات الإنتاجية الأخرى، يبقى الاقتصاد الليبي عرضة للتقلبات الناتجة عن تذبذب أسعار النفط العالمية. يشير تقرير البنك الدولي لعام 2023 إلى أن 60% من الناتج المحلي يأتي من قطاع النفط والغاز، ما يبرز هشاشة الاقتصاد الليبي ويطرح تحديات كبيرة أمام تحقيق نمو مستدام.
يرى المحلل الاقتصادي، محمد درميش، أن توقعات صندوق النقد غير واقعية، معتبرًا أنها تعتمد على “افتراضات بزيادة إنتاج النفط”، ولا تعكس واقع الاقتصاد الليبي بعمق. يقول درميش: “ليس من الممكن تحقيق هذا النمو في ظل الاعتماد الأحادي على النفط”، مشيرًا إلى أن “الصراع السياسي المستمر يؤثر بشكل كبير على إدارة الاقتصاد ويعوق خطط التنمية”.
ويضيف أن الاعتماد على النمو النفطي وحده لا يكفي لبناء اقتصاد قوي ومتين، ويحتاج الأمر إلى تطوير الصناعات الأخرى لتوسيع قاعدة الاقتصاد الليبي وضمان استقراره على المدى البعيد.
من جهة أخرى، يقدم المحلل الاقتصادي عبد الله شلتات نظرة مغايرة، حيث يؤكد أن الاقتصاد الليبي لا يعاني من شح الموارد، وأن الوضع الاقتصادي يشهد استقرارًا نسبيًا رغم التحديات. يقول شلتات: “على الرغم من حالة عدم الاستقرار السياسي، إلا أن الاقتصاد الليبي يظهر استقرارًا نسبيًا، مع وجود مشاريع إعادة الإعمار التي تسهم في دعم النمو”.
يشير شلتات إلى أن تنصيب إدارة جديدة للمصرف المركزي الليبي وتوجيه سياسات اقتصادية جديدة، ساهم في تهدئة الأوضاع المالية وتعزيز ثقة المواطنين في الاقتصاد، ما ساعد على زيادة الطلب المحلي وتقوية قيمة الدينار الليبي.
في هذا السياق، أصدر محافظ المصرف المركزي الجديد، ناجي عيسى، سلسلة قرارات من شأنها تخفيف التبعات الاقتصادية، أبرزها استئناف منظومة الأغراض الشخصية التي تسمح بشراء العملات الأجنبية بالسعر المصرفي، وزيادة حصة المواطن الليبي السنوية من العملة الصعبة. وقد قام المصرف بضخ حوالي 3 مليارات دولار في البنوك المحلية، ما ينعش السوق ويحد من التضخم.
يرى شلتات أن هذه الإجراءات ستخلق ديناميكية اقتصادية متجددة، تسهم في تحقيق الاستقرار المالي على المدى القصير، مع تعزيز النمو الاقتصادي، لا سيما إذا تم تنظيم القطاع المصرفي وإعادة هيكلة المؤسسات المالية.
يعيد التقرير طرح سؤال جوهري: هل تستطيع ليبيا الاستمرار في الاعتماد على النفط والغاز لتحقيق معدلات النمو؟ وفقًا لصندوق النقد الدولي، فإن البلاد بحاجة إلى رؤية اقتصادية وطنية شاملة تتجاوز الاعتماد على الموارد الطبيعية وحدها، وتبني اقتصادًا مستدامًا وقابلًا للتكيف مع التغيرات الاقتصادية العالمية.
فيما يرى خبراء اقتصاديون أن اعتماد البلاد الكبير على النفط يضعها في مواجهة مخاطر كبيرة، لا سيما أن هذا المورد قد يشهد تقلبات سلبية، ويتطلب تحقيق استدامة اقتصادية بناء قاعدة متنوعة من القطاعات الإنتاجية.
مع استمرار الانقسامات السياسية، تظل ليبيا تحت وطأة تنافس داخلي محتدم، حيث يعطل الصراع المستمر قدرة المؤسسات على تقديم الخدمات وإدارة الاقتصاد بفعالية. يرى درميش أن أي جهود لتحقيق نمو اقتصادي مستدام ستبقى مقيدة بوجود انقسام سياسي، مطالبًا بضرورة توحيد المؤسسات للوصول إلى اقتصاد قادر على تحقيق نمو حقيقي بعيدًا عن قطاع النفط.
يؤكد المحللون على أهمية وضع رؤية شاملة تتضمن إصلاحات هيكلية واسعة تشمل جميع القطاعات، من زراعة وصناعة وتكنولوجيا، للوصول إلى اقتصاد متنوع قادر على توفير فرص عمل مستدامة وتحقيق استقرار مالي على المدى الطويل. هذه الرؤية الاقتصادية تحتاج إلى تضافر الجهود لتجاوز تحديات الانقسام السياسي وبناء اقتصاد يتمتع بمناعة ضد الصدمات العالمية.
تظل التوقعات الاقتصادية لصندوق النقد الدولي مبعثًا للأمل في تحقيق مستقبل اقتصادي أفضل لليبيا، إلا أن تحقيق هذه التوقعات يتطلب إرادة سياسية قوية، وتوحيدًا للمؤسسات، وتنفيذ إصلاحات اقتصادية حقيقية تُقلل من الاعتماد المفرط على النفط. في نهاية المطاف، ستكون قدرة ليبيا على تجاوز التحديات الحالية مرهونة بقدرتها على بناء رؤية اقتصادية وطنية تُعيد الثقة للمواطن وتدفع بعجلة الاقتصاد نحو النمو والاستقرار.