تعيش ليبيا في أزمات اقتصادية معقدة تتفاقم يوماً بعد يوم، حيث يتزايد حجم السيولة النقدية المتدفقة في السوق، دون أن تكون هناك فوائد ملموسة على الاقتصاد أو حياة المواطنين. يعرف خبراء الاقتصاد هذه الظاهرة بظاهرة “تمدد الكاش”، وهي انعكاس لزيادة المعروض النقدي في الاقتصاد، إلا أن هذا التوسع يأتي في بيئة تتسم بفقدان الثقة بالمصارف والمؤسسات المالية.
على مدى سنوات، تبنت السلطات سياسات نقدية توسعية لتحفيز الاقتصاد المتأزم، لكن النتائج جاءت معاكسة للتوقعات، مما أدى إلى تزايد الاعتماد على اقتصاد الظل والمعاملات غير الرسمية. وتعاني ليبيا من خلل اقتصادي عميق لا يمكن تجاهله؛ فالأزمة لا تتعلق بالسيولة وحدها بل تتصل بالبنية الاقتصادية والمؤسساتية بأكملها، والتي تتسم بالهشاشة وعدم الاستقرار، ما ينعكس بشكل مباشر على ثقة المواطن في الاقتصاد.
إن توسع اقتصاد الظل وتناميه بوتيرة سريعة، يمثلان عائقاً كبيراً أمام تحقيق النمو الاقتصادي والتنمية. يعتمد هذا الاقتصاد على الأنشطة التجارية غير الرسمية التي تشمل عمليات بيع وشراء خارج النطاق المصرفي أو الضريبي للدولة، مما يؤدي إلى هروب رأس المال وتآكل قاعدة الاقتصاد الرسمي. تشير تقديرات متباينة إلى أن حجم الاقتصاد غير الرسمي قد بلغ ما يقارب 60% إلى 80% من حجم الاقتصاد الكلي، ما يعكس ضعف سيطرة الدولة على مفاصل الاقتصاد.
يرى بعض المواطنين أن الوضع قد زاد سوءاً مع غياب السيولة النقدية من المصارف، حيث أصبح الاعتماد على السوق الموازي وسيلة رئيسية للحصول على الأموال. يقول أحد المواطنين: “لا يمكن الاعتماد على المصارف للحصول على النقود، بل يمكنني الحصول على أي مبلغ أحتاجه من السوق الموازي بسهولة”، ويضيف بأن المؤسسات المالية الرسمية ما زالت تعمل بآليات تقليدية لا تتماشى مع احتياجات السوق.
في ظل هذا الواقع، يعاني المواطن من آثار التضخم المتصاعد، حيث تتراجع القوة الشرائية للنقود بفعل ارتفاع الأسعار وتدهور قيمة العملة المحلية. السيولة المتزايدة لم تساهم في تحفيز السوق أو خفض التضخم، بل إنها زادت الضغط على الأوضاع المعيشية، في ظل غياب حلول طويلة المدى من قبل الجهات المعنية. ويرى محللون اقتصاديون أن تمدد الكاش لا يعني بالضرورة تحسناً اقتصادياً، بل قد يكون له آثار سلبية على الاقتصاد، إذا لم يتم ضبط آليات ضخ السيولة وتوجيهها نحو الاستثمار المنتج.
وحسب الأرقام الرسمية، بلغ حجم العملة المتداولة خارج القطاع المصرفي حوالي 44.4 مليار دينار حتى الربع الأول من هذا العام، ما يمثل تحدياً كبيراً للسلطات التي تسعى جاهدةً للسيطرة على حركة النقد وتوجيهها نحو الاقتصاد الرسمي.
وسط هذا التدهور، أعلن مصرف ليبيا المركزي عن عزمه ضخ 15 مليار دينار في السوق خلال الشهر المقبل، وهو قرار أثار تبايناً في الآراء حول جدواه وتأثيراته المحتملة. فبينما يرى البعض أن هذه الخطوة قد تساهم في حل أزمة السيولة، يحذر آخرون من خطر ارتفاع معدلات التضخم، مما قد يؤدي إلى تراجع أكبر في القدرة الشرائية للمواطنين.
من ناحية أخرى، يشير خبراء إلى أن الحلول المؤقتة، مثل إصدار عملة جديدة أو ضخ السيولة، لن تكون كافية لعلاج الأزمة المتجذرة، حيث أن المعضلة تتطلب استراتيجيات جديدة لتعزيز الثقة بالمصارف وتحفيز الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية، بعيداً عن الحلول المؤقتة التي سرعان ما تفقد فعاليتها.
أحد الأسباب الرئيسية وراء توسع اقتصاد الظل، وتدفق السيولة خارج القطاع المصرفي، هو الهشاشة الأمنية التي تعاني منها ليبيا، فضلاً عن تراجع الثقة بقدرة المصارف على تقديم الخدمات النقدية بانتظام. يشعر العديد من الليبيين بالخوف من فقدان أموالهم عند إيداعها في المصارف، مما يدفعهم إلى الاحتفاظ بها في المنازل، وهذا ما يخلق بيئة خصبة لاقتصاد الظل، حيث تُنجز المعاملات بعيداً عن القنوات الرسمية.
في ظل هذه التحديات، يرى الاقتصاديون أن ليبيا بحاجة إلى إعادة النظر في سياساتها الاقتصادية بشكل شامل. يجب على المصرف المركزي تبني سياسات أكثر فاعلية للسيطرة على السيولة، وتوجيهها نحو المشاريع التنموية والبنى التحتية، لتعزيز الاقتصاد الرسمي وكبح جماح التضخم.
إضافة إلى ذلك، يتعين على الحكومة وضع إطار قانوني وتنظيمي أكثر صرامة لمحاربة الأنشطة غير القانونية، وتطوير آليات لدمج الاقتصاد غير الرسمي ضمن الاقتصاد الرسمي، لضمان أن تكون جميع الأنشطة الاقتصادية ضمن إطار القانون.
في النهاية، يمكن القول إن أزمة السيولة في ليبيا هي عرض لمرض أعمق، يتمثل في فقدان الثقة بالنظام الاقتصادي، وغياب الاستقرار السياسي والمؤسسي. إن ضخ الأموال في السوق لن يكون كافياً لتحقيق النمو والاستقرار، ما لم يتم العمل على استعادة الثقة بالمصارف وتعزيز البيئة الاستثمارية، وتقديم رؤية اقتصادية شاملة وطويلة الأمد.
يبدو أن ليبيا تقف أمام مفترق طرق اقتصادي، حيث يتطلب الأمر اتخاذ قرارات جذرية ومستدامة لتعزيز الثقة بالنظام المصرفي ومحاربة اقتصاد الظل. إن معالجة ظاهرة “تمدد الكاش” ليست بالمسألة البسيطة، لكنها قد تكون نقطة تحول إذا تمت إدارتها بفاعلية، لتكون جزءاً من عملية إصلاح اقتصادي تعيد الأمل للمواطن الليبي وترسم مستقبلاً أفضل للاقتصاد الليبي.