على وقع همسات الألم وصدى الاستغاثات المكتومة، اجتمعت في مدينة الزاوية عائلات تجتمع على وجعٍ واحد، “السرطان” ذلك الذي ينهش أجساد أبنائهم من مرضى الأورام ويمتص ما تبقى من قوتهم. لم يكن الحشد أمام مركزٍ علاجي أو مبنى حكومي، بل في الساحات المفتوحة، حيث تُسمع المطالب بعذوبة الأمل وثقل اليأس. رفع الأهالي أصواتهم، يتحدثون عن حقوق بسيطة، حق في العلاج ، وحق في البقاء دون أن يصبح “المرض الفتاك” عنوانا لمصير لا مفر منه.
عبّر أحد المحتجين عن الأوضاع المتدهورة التي يعيشها مرضى الأورام في ليبيا، قائلاً بصوت متردد: “كل ما نطلبه من الحكومة هو أن تدعمهم وتوفر لهم أبسط حقوقهم من العلاج”، مؤكداً أن المرض انتشر بشكل مفزع بين أبناء المنطقة، وأن عدم توفر العلاج يدفع الكثيرين لبيع ممتلكاتهم، وتحويل كل ما يملكونه إلى وقود للأمل، في محاولات مكلفة للنجاة.
ورغم الجهود المحدودة التي تبذلها بعض المؤسسات، يشعر الأهالي بأن حكومة الدبيبة منتهية الولاية تركتهم في عزلة أمام هذا المصير المؤلم. الانقسام السياسي الذي يعصف بالبلاد منذ عام 2014 لم يخلق صراعات على السلطة فقط، بل خلق عوائق تُثقل كاهل القطاع الصحي وتجعل من العلاج الفعّال حلماً بعيد المنال. ومن هذا المنطلق، كانت وقفة الاحتجاج رسالةً غاضبة إلى الحكومة، محذرةً من أن الإهمال الصحي وصل إلى حد لا يُغتفر، وأن صبر الأهالي بدأ بالنفاد.
كانت عيون الحاضرين تتطلع إلى كل من يشاركهم هذا الألم، يحملون أطفالهم المرضى، بينما يروي بعضهم قصص كفاح أُسرهم في جمع الأموال للعلاج. “أجساد أبنائنا أصبحت مُنهَكة بين ويلات المرض، وغلاء أسعار الجرعات وعدم توفرها”، هكذا قالت إحدى الأمهات بحزن.
أمام غياب العلاج في ليبيا، اضطر الكثيرون للسفر إلى الخارج، حيث يبحثون في تونس ومصر وألمانيا عن طوق النجاة، ولكن رحلة العلاج هذه لا تخلو من صعوبات. الأسعار باهظة، والجرعة الواحدة قد تصل إلى 23200 دينار ليبي، وكل هذا في ظل تأخر الجهات الحكومية عن تقديم أي نوع من الدعم.
أطلق المحتجون في الزاوية استغاثات مدوية، محذرين من أنهم لن يقفوا مكتوفي الأيدي في حال استمرار تجاهل حكومة الدبيبة منتهية الولاية لمعاناتهم. “القتل الطبي المتعمد” كان الوصف الذي أطلقوه على السياسات التي تترك مرضى الأورام في مواجهة الموت دون أن توفر لهم الحكومة العلاج اللازم. وفي ظل غياب أي أرقام رسمية عن عدد المصابين، يُقدّر بعض المتابعين أن الأعداد تتجاوز الإحصاءات الرسمية، ما يعكس حجم الأزمة التي تتفاقم يومياً.
تزداد معاناة المرضى حين يضطرون للتجول بين الإدارات الحكومية للحصول على الموافقات اللازمة للعلاج بالخارج، وكأن الألم الجسدي لم يكن كافياً ليضيفوا إليه ألم الانتظار، والبحث عن أمل بين الأوراق والأختام.
على الرغم من أن “الهيئة الوطنية لمكافحة السرطان” سجلت في مايو 2024 حوالي 12513 حالة، إلا أن هذه الأرقام تبدو بعيدة عن الواقع، فالكثير من الحالات لم تسجل بسبب تفضيل المرضى العلاج بالخارج، حيث تتوافر إمكانيات أفضل وفرص أكبر للبقاء على قيد الحياة.
ليس غريباً إذن أن يعلن الأهالي أنهم سيتخذون خطوات تصعيدية، فمطالبة حكومة الدبيبة منتهية الولاية بإنهاء “القتل الطبي” ليست مجرد احتجاج، بل صرخة تحذير بأن معاناة هذه الفئة قد بلغت حدًا لا يمكن السكوت عليه. ومع تواصل الانقسام السياسي وانعدام السيولة، يبدو أن الحلول ستظل بعيدة المنال، إلا إذا قررت الحكومة أخيراً أن تسمع صوت هؤلاء الذين يذوبون بصمت.