عندما يصبح المال العام في قبضة غير أمينة، تتوالى الأزمات وتتعاظم معاناة الشعوب. القطاع المصرفي الليبي، الذي يُفترض أن يكون الدعامة الأساسية للاقتصاد الوطني، تحول إلى مصدر للفساد وسوء الإدارة، كما كشف تقرير ديوان المحاسبة لعام 2023. وبينما يواجه المواطن البسيط صعوبات يومية للحصول على حقوقه الأساسية، يضيع المال العام في دهاليز الإدارة الفاسدة والقرارات العشوائية.
كشف التقرير عن استخدام ودائع زمنية متعثرة في مصرف شمال إفريقيا – بيروت كغطاء نقدي للعملة المحلية، وهو ما يثير تساؤلات حول القرارات الاستراتيجية لإدارة المصرف المركزي. في بلد يعاني شعبه من الفقر ونقص السيولة، تُدار ثرواته بمجازفات تُفضي إلى خسائر محتومة. تبرز هنا تساؤلات مشروعة: كيف يمكن تبرير هذا الإجراء في ظل الأزمة الاقتصادية اللبنانية؟
رغم وجود سياسات استثمارية معتمدة، قررت الإدارة المصرفية تجاوز التصنيفات الائتمانية المطلوبة لاستثمار أموال في سندات تركيا والأردن. تصنيفات متدنية تقل عن (BBB)، حدّدت مصير أموال الليبيين إلى مخاطر غير مبررة. هذا التجاوز يعكس نمطًا من القرارات التي لا تراعي المصالح العامة، وتُظهر غياب الرؤية المسؤولة لدى القائمين على إدارة القطاع المصرفي.
وفي ظل محاولة تنويع الاستثمارات، اختار المصرف الليبي الخارجي منتجًا من المشتقات المالية (DCD)، دون اعتبار للمخاطر المحتملة، مما أدى إلى خسارة صافية قدرها 135 مليون دولار. الخسائر هنا ليست أرقامًا مجردة؛ بل هي جزء من الأموال التي يحتاجها الليبيون لإعادة بناء مستقبلهم واقتصادهم المتهالك.
كشف التقرير عن تقادم أنظمة المصارف واعتماد إدخال البيانات يدويًا في العديد من العمليات الحيوية، مما يُعمّق المخاطر التشغيلية. مثل هذه الإخفاقات التقنية تجعل النظام المصرفي الليبي عرضة للتزوير والاختلاسات، كما تسهم في عرقلة العمليات اليومية. منظومة T24، على سبيل المثال، توقفت عن توليد الفوائد تلقائيًا، ما يزيد من الاعتماد على الاجتهادات الفردية التي تُضاعف احتمالات الخطأ.
وصلت الاختلاسات المالية إلى مستويات مقلقة؛ إذ تجاوزت 26 مليون دينار في عام واحد فقط. صكوك مزورة وقيود محاسبية معلّقة أبرزت حجم التجاوزات، مع تقارير تؤكد تمرير صكوك مقاصة إلكترونية من فروع متعددة دون رقابة فعالة. هذه الاختلاسات ليست سوى جزء من أزمة أوسع تتمثل في ضعف البنية الإدارية والرقابية داخل المصارف الليبية.
رغم التحديات الاقتصادية، تجاوزت إدارة المصرف في الإنفاق على بنود مثل الرواتب والمصاريف الطبية، ما يعكس عدم التزامها بالموازنات التقديرية. وفي الوقت ذاته، انخفض صافي الدخل المصرفي بنسبة 25% مقارنة بعام 2022، مما يضع المصرف أمام معضلة مالية مزدوجة: ضعف الإيرادات وزيادة النفقات.
هذه الأزمات لا تُلقي بظلالها فقط على الأداء المصرفي، بل تنعكس مباشرة على المواطن. في بلد يعيش أكثر من نصف سكانه تحت خط الفقر، يُصبح فساد القطاع المصرفي مصدرًا لإضعاف ثقة الشعب في مؤسسات الدولة. المواطن الليبي، الذي يكافح للحصول على السيولة النقدية الأساسية، يجد نفسه ضحية سياسات عشوائية وإدارة فاقدة للمصداقية.
الإصلاح الحقيقي يبدأ بتعزيز الشفافية والرقابة الداخلية. ينبغي اتخاذ خطوات حاسمة لتحسين الأنظمة المصرفية وضمان الالتزام بالسياسات الاستثمارية المعلنة. كذلك، فإن مواجهة الفساد تتطلب إرادة سياسية قوية وتحقيقًا شاملاً في التجاوزات المعلنة، مع محاسبة المسؤولين عن هذا الهدر الممنهج.
رغم التحديات الجسيمة، لا يزال هناك أمل في بناء قطاع مصرفي يُدار بكفاءة وعدالة. الأمر يتطلب رؤية وطنية واضحة تُعيد ثقة الليبيين في مؤسساتهم المصرفية، وتضع حدًا للفساد الذي نخر أساس الاقتصاد. فالإصلاح الحقيقي ليس خيارًا؛ بل ضرورة لا غنى عنها لضمان مستقبل أفضل لشعب عانى طويلًا من الظلم وسوء الإدارة.