في قلب المشهد الاقتصادي، حيث الثروات الطبيعية تتناقض مع الأزمات المتلاحقة، تتكشف أزمة السيولة النقدية باعتبارها أزمة مركبة تمسّ أوجه الحياة كافة. هذا التحول القسري الذي يعيشه المواطن يعكس بجلاء التحديات البنيوية والثقافية التي تواجه البلاد في الانتقال من اقتصاد يعتمد على السيولة النقدية إلى اقتصاد رقمي أكثر مرونة.
الطوابير الطويلة وصراع المواطنين مع السيولة
منذ سنوات، أصبحت مشاهد اصطفاف المواطنين أمام أبواب البنوك في مختلف المدن الليبية صورة مألوفة، حيث يواجه الجميع واقعاً مريراً يتمثل في نقص النقد المتوفر في المصارف. تصطف المئات من العائلات، ساعات طويلة، بانتظار دورهم في سحب مبلغ قد لا يكفي لتلبية احتياجاتهم الأساسية.
هذا المشهد، وإن كان مألوفاً، يعكس أبعاداً أكثر تعقيداً. فقد تسبّب انعدام الثقة بالنظام المالي، الذي يعاني من أزمات متراكمة، في عزوف المواطنين عن إعادة أموالهم إلى المصارف، مفضلين الاحتفاظ بها في منازلهم. ومع فرض قيود على السحب تصل إلى ألف دينار شهرياً فقط، باتت أزمة السيولة قيداً على الحياة اليومية.
الدفع الإلكتروني.. حلول تطفو على السطح
وسط هذه الأجواء القاتمة، برزت البطاقات المصرفية كخيار يكتسب زخماً، خاصة بين الأجيال الشابة التي تتبنى بسرعة الحلول الرقمية. إلا أن الطريق نحو اقتصاد رقمي لا يزال مليئاً بالعقبات، إذ لا تزال البنية التحتية في مراحلها الأولى، فيما يواجه المواطنون صعوبات في إيجاد أجهزة صراف آلي تعمل بانتظام.
في مدينة مصراتة، مركز اقتصادي حيوي، تظهر مؤشرات أولية لتزايد الوعي بأهمية هذه الحلول. ومع ذلك، يواجه التجار صعوبة في التكيف مع التكنولوجيا الجديدة بسبب نقص الأجهزة اللازمة لقبول المدفوعات الإلكترونية.
الأزمة السياسية وتأثيرها على السيولة
لم تكن أزمة السيولة في ليبيا منفصلة عن التوترات السياسية التي قسمت المؤسسات الحيوية في البلاد منذ عام 2014. مصرف ليبيا المركزي كان نموذجاً لهذا الانقسام، حيث أدار فرعان منفصلان في طرابلس وبنغازي إصدار عملات نقدية مختلفة، مما تسبب في انتشار واسع للعملات المزورة.
في محاولة للسيطرة على الفوضى النقدية، أطلق المصرف المركزي حملة لسحب العملات الورقية المزورة من فئة 50 ديناراً، إلا أن هذا الإجراء واجه تحديات عملية وثقافية في ظل رفض واسع من المواطنين والشركات لقبول هذه الأوراق.
التحديات والحلول الممكنة
في ظل هذه الظروف، يبقى السؤال الأهم: هل يستطيع الاقتصاد الليبي تبني ثقافة الدفع الإلكتروني كبديل ناجح؟ الإجابة ليست سهلة، لكنها تتطلب تكاملاً بين تحسين البنية التحتية، توعية المجتمع، وتحفيز التجار على تبني وسائل الدفع الحديثة.
وبالرغم من الجهود المبذولة من قبل البنك المركزي، بما في ذلك ضخ 15 مليار دينار في المصارف وتخفيف العمولات على البطاقات المصرفية، لا تزال العقبات التقنية والثقافية تشكل حجر عثرة أمام نجاح هذا التحول.
الأفق المستقبلي
إن تحول ليبيا إلى اقتصاد رقمي لا يعني فقط مواجهة أزمة السيولة، بل يمثل خطوة نحو بناء نظام مالي أكثر كفاءة وشفافية. هذه الخطوة تتطلب جهوداً جماعية من المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص والمجتمع المدني، لخلق بيئة ملائمة لتبني التكنولوجيا كأداة لتحسين الحياة اليومية.
ربما تكون أزمة السيولة النقدية قد دفعت الليبيين نحو الحلول الرقمية، لكنها أيضاً فتحت الباب أمام إعادة التفكير في شكل الاقتصاد الوطني، بما يتناسب مع متطلبات العصر الحديث وتحدياته.