وسط تحديات اقتصادية خانقة أثقلت كاهل المواطن وأرهقت القطاع المصرفي، جاء إعلان مصرف ليبيا المركزي كخطوة رائدة لإعادة الاستقرار المالي. عضو لجنة سعر الصرف السابق بـ مصرف ليبيا المركزي ، مصباح العكاري، اعتبر أن القرار الذي يتلخص في منح قرض حسن يعادل 60% من صافي المرتب الشهري لكل موظف يستخدم أدوات الدفع الإلكتروني، يُعد خطوة نوعية تسهم في مواجهة مشكلتين مزمنتين: تأخر صرف المرتبات وشح السيولة النقدية.
لنتخيل مواطناً ليبياً يتقاضى راتباً شهرياً يبلغ 1700 دينار. بموجب هذا القرار الجديد، يحق له الحصول على 60% من صافي مرتبه، أي ما يعادل 900 دينار قبل وصول راتبه إلى حسابه المصرفي. الإجراء بسيط وشفاف؛ إذ يُخصم المبلغ المستخدم تلقائياً عند ورود المرتب الشهري، دون أي عمولات أو فوائد. هذه الآلية تمنح المواطن حلاً فورياً لتلبية احتياجاته الأساسية، مع ضمان إدارة المرتب بفعالية ودون الحاجة إلى اللجوء للدين أو الاعتماد على المتاجر المحلية لتسديد الفواتير مؤقتاً.
وبحسب منشور للعكاري عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” رصدته “أخبار ليبيا 24″ ، فإنه في عالم المصارف، الثقة هي العمود الفقري لأي نظام مالي. ومع تراجع الثقة بين المواطنين والمؤسسات المصرفية خلال السنوات الماضية، يُعد هذا الإجراء خطوة جريئة لإعادة بناء تلك العلاقة. فمن جهة، يمنح القرض الحسن المواطنين حرية الإنفاق بكرامة، ومن جهة أخرى يعيد توجيه المرتبات إلى النظام المصرفي، مما يعزز السيولة الداخلية دون الحاجة إلى طباعة نقود جديدة.
تقديرات العكاري تشير إلى أن القطاع المصرفي يتلقى شهرياً ما يقارب 5 مليارات دينار كمرتبات للموظفين. إذا طبق 60% من هذه المرتبات عبر القروض الحسنة، فإن الطلب الشهري على السيولة النقدية سينخفض بحوالي 3 مليارات دينار. هذه الأرقام ليست مجرد بيانات مالية؛ بل تعكس تغيراً ملموساً في سلوك المواطن والمصرف على حد سواء.
أزمة السيولة ليست وليدة اللحظة. فمنذ سنوات، يواجه المواطن صعوبات يومية في سحب الأموال من المصارف بسبب نقص الأوراق النقدية. ولجأ البعض إلى حلول بديلة مثل تخزين الأموال في المنازل أو الاعتماد على وسائل الدفع التقليدية. القرار الجديد يعكس نقلة نوعية في معالجة هذه الأزمة، إذ يشجع المواطنين على استخدام أدوات الدفع الإلكتروني، ما يخفف العبء عن المصارف ويوفر خيارات أكثر أماناً وراحة.
الأثر الإيجابي لا يتوقف عند هذا الحد. تقليل الطلب على السيولة النقدية يحد من الحاجة إلى طباعة المزيد من النقود، وهو ما يقلل الضغط على الاقتصاد ويعزز استقراره. المواطنون الذين اعتادوا الاقتراض من المحال التجارية أو الجيران يجدون في القرض الحسن حلاً عملياً ومشرفاً، حيث يتمكنون من تلبية احتياجاتهم دون أعباء إضافية.
أحد أبرز أوجه القوة في هذا القرار هو اعتماده على الدفع الإلكتروني كشرط أساسي للحصول على القرض الحسن. في وقت تتجه فيه الاقتصادات العالمية نحو الرقمية، يبدو أن ليبيا تخطو أولى خطواتها الجادة نحو هذا التحول. الأدوات الإلكترونية مثل البطاقات المصرفية وتطبيقات الهواتف الذكية ليست مجرد وسائل للدفع؛ بل تمثل جسراً بين المواطن والمؤسسات المصرفية، يعزز الشفافية ويرفع كفاءة العمليات المالية.
التحول الرقمي ليس رفاهية بل ضرورة، والقرار الجديد يعكس وعياً بأهمية هذا التوجه. فمع تزايد استخدام الأدوات الإلكترونية، يصبح الاقتصاد الليبي أكثر استعداداً للتعامل مع تحديات المستقبل، سواء من حيث تقليل الاعتماد على النقد أو تعزيز الشمول المالي للمواطنين في المناطق النائية.
رغم التفاؤل الكبير الذي صاحب إعلان العكاري، لا يخلو القرار من تحديات قد تعيق تنفيذه. إحدى هذه التحديات هي الحاجة إلى توعية المواطنين بأهمية الخطوة الجديدة وكيفية الاستفادة منها. فالثقافة المصرفية ما زالت محدودة في بعض المناطق، وهناك من يفضل التعامل النقدي على الأدوات الإلكترونية بسبب قلة الوعي أو انعدام الثقة.
من هنا، يصبح دور المصارف والمؤسسات الإعلامية محورياً في نشر الوعي وتعزيز الثقة. تدريب الموظفين المصرفيين على تسهيل الإجراءات، وتبسيط الخطوات أمام المواطنين، يمكن أن يكونا عاملين حاسمين في نجاح القرار.
القرار الذي أعلنه العكاري يمثل أكثر من مجرد إجراء مصرفي؛ إنه رؤية جديدة لتخفيف الأعباء عن كاهل المواطن، واستعادة الثقة بين المصارف والجمهور، ووضع الاقتصاد الليبي على مسار أكثر استدامة.
إذا تضافرت الجهود بين المواطنين، المصارف، والحكومة، يمكن لهذا القرار أن يكون بداية مرحلة جديدة تُكتب فيها فصول إيجابية من تاريخ الاقتصاد الليبي. في النهاية، يبقى الأمل في أن يتبنى المجتمع الليبي هذه الخطوة ويتفاعل معها، لتحقيق أقصى استفادة ممكنة للجميع.