في ظل أزمات متفاقمة، تبرز ليبيا كواحدة من الدول الأكثر تأثراً بالأزمة الغذائية التي تضرب منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ندرة المياه، النزاعات الإقليمية، والتغيرات المناخية ليست سوى بعض من العوامل التي جعلت الأمن الغذائي في ليبيا يتصدر المشهد كأولوية ملحة للحكومة والمجتمع الدولي.
تمثل ندرة المياه أحد أكبر التحديات التي تواجه ليبيا. فمن بين الدول الأكثر جفافاً في العالم، تقع ليبيا في موقع حرج يجعلها تعتمد بشكل رئيسي على المياه الجوفية وتحلية مياه البحر. ويقول عبد الحكيم الواعر، المدير العام المساعد لمنظمة الأغذية والزراعة (فاو)، إن حصة الفرد من المياه في ليبيا أقل بكثير من المتوسط العالمي، ما يضع البلاد أمام تحديات كبرى لضمان الأمن الغذائي.
وأضاف الواعر أن بعض المناطق تعتمد على الأمطار الموسمية أو موارد المياه السطحية التي تأثرت سلباً بانخفاض معدلات الهطول نتيجة التغيرات المناخية. ومع استمرار هذه التغيرات، تصبح الزراعة في ليبيا أقل استدامة، مما يزيد من خطر اعتماد البلاد على الاستيراد لتلبية احتياجاتها الغذائية.
النزاعات والحروب في الشرق الأوسط تلقي بظلالها الثقيلة على ليبيا. فالحرب الروسية الأوكرانية تؤثر بشكل مباشر على حركة الملاحة في البحر الأسود، مما يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الاستيراد. كما أن النزاعات في منطقة البحر الأحمر وخليج عدن تعيق تدفق الإمدادات الغذائية إلى الأسواق الليبية.
ويؤكد الواعر أن هذه النزاعات لها “آثار مباشرة وسلبية” على الدول العربية عموماً، وليبيا بشكل خاص، حيث ترفع تكاليف التأمين على السلع المستوردة، مما يضع مزيداً من الضغوط على الاقتصاد الليبي الذي يعاني بالفعل من انقسامات سياسية وصراعات داخلية.
التغيرات المناخية تضيف طبقة أخرى من التعقيد للأزمة الغذائية في ليبيا. ارتفاع درجات الحرارة، وزيادة التصحر، وزحف المياه المالحة على الأراضي الزراعية الخصبة، جميعها عوامل تهدد الزراعة الليبية.
وأوضح الواعر أن ارتفاع مستويات سطح البحر يؤدي إلى تآكل الأراضي الزراعية الساحلية، مما يقلل من إنتاجية المحاصيل ويزيد من هشاشة الأمن الغذائي. وفي الوقت ذاته، تتأثر المراعي التي تعتمد عليها الثروة الحيوانية بالعواصف الرملية التي تجتاح المناطق الجنوبية للبلاد.
تحتاج ليبيا إلى استثمارات ضخمة لإنقاذ القطاع الزراعي. وقدرت منظمة “فاو” أن المنطقة ككل تحتاج إلى 500 مليون دولار سنوياً لتطوير مشاريع زراعية مستدامة. وفي ليبيا، تظل الحاجة ماسة إلى تمويل مشروعات تحلية مياه البحر، واستخدام تقنيات مبتكرة لتوفير المياه.
ويقول الواعر إن الدعم المالي يجب أن يشمل صغار المزارعين لضمان استمرارية الإنتاج الزراعي. ولكن في ظل الانقسامات السياسية وغياب الاستقرار، يبقى تنفيذ هذه المشاريع تحدياً كبيراً.
رغم أن تحلية مياه البحر تبدو كحل واعد للتخفيف من أزمة ندرة المياه، إلا أن تطبيقها في ليبيا يواجه صعوبات. التكلفة العالية، والحاجة إلى بنية تحتية متطورة، والضغوط الاقتصادية تجعل من الصعب تبني هذه التقنية على نطاق واسع.
وأشار الواعر إلى أن دول الخليج نجحت في استخدام تحلية المياه لتلبية احتياجاتها، ولكن نقل هذه التجربة إلى ليبيا يتطلب دعماً تقنياً ومالياً كبيراً.
إلى جانب التحديات المناخية والاقتصادية، تواجه ليبيا تهديدات من الآفات الزراعية. الجراد ودودة الحشد الخريفي من بين الآفات التي تتفاقم بسبب موجات الجفاف والحرارة المرتفعة.
وأوضح الواعر أن هذه الآفات تهدد المحاصيل الزراعية وتقلل من قدرة البلاد على تحقيق الاكتفاء الذاتي. وأضاف أن العواصف الرملية تؤثر أيضاً في المراعي، مما يزيد من الضغوط على قطاع الثروة الحيوانية.
في ظل هذه التحديات، تظل الحلول الممكنة لتحقيق الأمن الغذائي في ليبيا محدودة. الدعم الدولي، والاستثمار في التقنيات الزراعية الحديثة، والحد من النزاعات الإقليمية، جميعها عوامل يمكن أن تساهم في تخفيف الأزمة.
لكن الأهم هو الالتزام الوطني بوضع الأمن الغذائي في مقدمة الأولويات. فبدون استقرار سياسي وتوجيه الجهود نحو تعزيز الزراعة، ستبقى ليبيا عرضة للأزمات الغذائية التي تهدد استقرارها.
ليبيا ليست بمنأى عن الأزمات التي تعصف بالمنطقة، بل تقف في قلبها. وبينما تسعى البلاد للتغلب على تحدياتها السياسية والاقتصادية، يبقى الأمن الغذائي اختباراً حقيقياً لإرادة الدولة والمجتمع الدولي.