في مشهد يتكرر يومًا بعد يوم، يبدو المشهد الاقتصادي الليبي محاصرًا بتصريحات متناقضة تُصدر عن مسؤولي الدولة، وكأن الحقيقة أصبحت غائبة في خضم الأرقام التي يطلقها الجميع، دون أي سند واضح أو قاعدة بيانات يمكن الوثوق بها.
الخبير الاقتصادي، مختار الجديد في انتقاد صريح مليء بالأسى، أطلق صرخته الشهيرة: “اسكتوا الله يرحم ولديكم”. تصريح يبدو كأنه رسالة أخيرة تحمل بين طياتها الألم واليأس من أداء المسؤولين، الذين تناسوا أن الأرقام ليست مجرد كلمات عابرة يمكن التلاعب بها، بل هي أساس القرارات التي تمس حياة الشعب مباشرة.
في الدول التي تحترم نفسها، الاقتصاد لا يُبنى على الكلام، بل على المؤشرات الحقيقية. معدلات البطالة، نسب التضخم، حجم العمالة الأجنبية، كل هذه البيانات تُحسب بعناية وتخضع لمراجعات دورية. أما في ليبيا، فتبدو الأمور وكأنها لعبة عشوائية، إذ يصرح المسؤول برقم في يوم، ليعود بعد أيام قليلة ويناقض نفسه تمامًا.
تساءل الجديد من خلال عدة منشورات له عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” ورصدتها “أخبار ليبيا 24“ بمرارة: “هل يعرف المسؤولون حقيقة هذه الأرقام؟ هل يعرفون مستقبل الرواتب أو التضخم؟”. من الواضح أن الإجابة تأتي بالنفي. هذا الواقع يجعل الشعب يتنقل بين الأوهام، حيث تُصَدَّر الأرقام دون تحقيق أو تدقيق، ويُصدِّق المواطن ما يُلقى عليه دون أن يدرك حجم الكارثة التي تنتظره.
منذ أن قررت الحكومة إلغاء مبادلة النفط، بدأت تظهر على السطح تهديدات مبطنة من رئيس مؤسسة النفط المكلف. تصريحات تحمل في طياتها إيحاءات بحدوث أزمات متوقعة في إمدادات الوقود. هذه التهديدات تفتح الباب أمام تساؤلات مشروعة: هل هذه التصريحات محاولة لتغطية فشل ما؟ أم أنها رسائل سياسية موجهة؟
الأزمات الاقتصادية ليست وليدة اليوم، لكنها باتت تُستغل كأداة للضغط السياسي. حين يتحدث أحد المسؤولين عن احتمالية نقص الوقود، فإنه يدرك جيدًا تأثير ذلك على الرأي العام، لكن هل الهدف هو إيجاد حلول حقيقية أم مجرد زرع الخوف في نفوس المواطنين؟
وعلى جانب آخر من الساحة الاقتصادية، نجد الخطاب الشعبوي الذي يتناول أسعار النفط وعلاقتها بالسياسات الأمريكية. هنا أيضًا، اختلطت الحقائق بالأوهام. تساءل مختار الجديد مستنكرًا: “لماذا يربط البعض أرزاقنا بترامب أو غيره؟”.
الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن أسعار النفط لم تنهَر في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بل وصلت في فترة حكمه إلى مستويات غير مسبوقة، حيث بلغ سعر البرميل 84 دولارًا. هذه الأرقام تدحض كل الادعاءات بأن السياسة الأمريكية هي التي تتحكم بمصير النفط الليبي.
ليبيا، بمواردها الطبيعية وثرواتها النفطية، لا تحتاج سوى إلى إدارة رشيدة قادرة على قراءة الواقع بموضوعية، بعيدًا عن التناقضات والتصريحات العشوائية. المطلوب هو بناء قاعدة بيانات حقيقية تشمل كل المؤشرات الاقتصادية، لتكون مرجعًا للمسؤولين في اتخاذ القرارات، وللشعب في فهم الوضع الحقيقي للبلاد.
إن رسالة مختار الجديد ليست مجرد انتقاد للمسؤولين، بل هي دعوة للتغيير. دعوة لأن يسكت كل من لا يملك المعلومة الدقيقة، وأن نبدأ مرحلة جديدة عنوانها الوضوح والشفافية.