أربع عشرة سنة مرّت على ثورة 17 فبراير 2011، الثورة التي أطاحت بحكم القذافي، لكنها لم تنجح حتى اليوم في بناء دولة مستقرة ذات مؤسسات حقيقية. وبينما كان الليبيون يحتفلون بهذه الذكرى، تحولت الفرحة إلى ذعر عندما اندلعت اشتباكات بين مجموعات مسلحة في الزاوية، مذكّرة الجميع بأن الواقع الأمني في البلاد لا يزال هشًّا، والمليشيات ما زالت تتحكم في المشهد، فيما تتوارى حكومة الدبيبة خلف ستار من العجز والتخاذل.
من مصراتة إلى الزنتان، ومن تاجوراء إلى الزاوية، خرج الليبيون في الشوارع حاملين أعلام الثورة، مستعيدين ذكريات يوم سقط فيه النظام، أملاً في غدٍ أكثر حرية وازدهارًا. ولكن سرعان ما تبدّد ذلك الأمل عندما دوّت أصوات الرصاص في الزاوية، وأفاق الجميع على الحقيقة القاسية: ليبيا لم تتحرر بعد، بل استُبدلت بحكم المليشيات.
في منطقة الحارة بمدينة الزاوية، اشتبكت مجموعتا “جموم” و”قباصه”، وانهالت زخّات الرصاص في كل اتجاه. المدنيون الذين خرجوا للاحتفال وجدوا أنفسهم عالقين وسط معركة لا ناقة لهم فيها ولا جمل، فقط الخوف، الركض، والبحث عن مأوى. مشهد لم يعد غريبًا في ليبيا، حيث لا تزال المدن ساحة لصراعات النفوذ بين مليشيات تسيطر على الأرض وتحكم بالسلاح.
منذ توليه رئاسة الحكومة منتهية الولاية، لم يقدّم عبد الحميد الدبيبة، أي حلول حقيقية لمعضلة السلاح المنفلت. بل على العكس، صار أسيرًا لحسابات المليشيات، يخضع لضغوطها، يسايرها، بل ويعتمد عليها في تثبيت أقدامه في السلطة. وبينما يطالب الليبيون ببناء جيش موحد، ومؤسسات أمنية قادرة على ضبط الأوضاع، تستمر الحكومة في سياسة “إرضاء الجميع”، مما يعني استمرار الفوضى وعدم وجود إرادة سياسية حقيقية لنزع السلاح أو ضبط الفوضى الأمنية.
إذا كان رئيس الحكومة عاجزًا عن فرض الأمن في مدينة واحدة، فكيف له أن يحقق الاستقرار في بلد شاسع يضج بالسلاح والجماعات المسلحة؟ كلما تكررت مثل هذه الاشتباكات، زادت القناعة لدى الليبيين بأن المليشيات هي الحاكم الفعلي للبلاد، وأن الحكومة ليست أكثر من “واجهة مدنية” لا تملك سلطة حقيقية.
مع كل أزمة أمنية، تخرج أصوات تدعو إلى المصالحة الوطنية ولمّ الشمل، لكن على الأرض، لا شيء يتغير. ما لم تتفق القوى السياسية والعسكرية على رؤية واضحة لحل الأزمة، سيظل الحديث عن المصالحة مجرد شعارات لا تسمن ولا تغني من جوع.
الليبيون يتساءلون: كيف نتحدث عن مصالحة بينما لا تزال أصوات الرصاص تعلو على أصوات الحوار؟ كيف نبني دولة في ظل انتشار المليشيات واستمرار الفوضى؟
ما حدث في الزاوية ليس سوى نموذج مصغر لما تعانيه ليبيا منذ سقوط النظام السابق. المشكلة لم تكن في إسقاط القذافي بحد ذاته، بل في الفراغ الذي تركه، والذي لم يُملأ بمؤسسات دولة حقيقية، بل بمليشيات متناحرة، وحكومات متعاقبة عاجزة عن فرض سلطتها.
ما لم يتم نزع سلاح الجماعات المسلحة وإعادة هيكلة المؤسسات الأمنية، ستظل ليبيا عالقة في هذه الدائرة الجهنمية من العنف، حيث يصبح كل حدث أمني تذكيرًا بأن الثورة لم تكتمل، وأن النضال الحقيقي لم يبدأ بعد.