يقول الأكاديمي والمحلل السياسي جبريل العبيدي إن ليبيا لم تعد دولة قائمة فعليًا، بل أصبحت “دولة مؤجلة”، تنتظر استعادة مؤسساتها التي تفككت بفعل التدخلات الخارجية والصراعات الداخلية التي تُدار بأيادٍ غير ليبية. فمنذ أن أسقط حلف شمال الأطلسي (الناتو) الدولة الليبية عام 2011، وليس فقط النظام، بحجة حماية المدنيين، لم تتحقق الحماية بل تفاقمت الفوضى، وأصبحت البلاد نهبًا للجماعات المسلحة والميليشيات والمرتزقة، فيما ظل المواطن الليبي يترقب وعودًا لم تتحقق.
يرى العبيدي أن الاستحقاق الانتخابي الذي كان من المفترض أن يُجرى في ديسمبر الماضي قد تم إجهاضه، كما أُجهضت محاولات سابقة، ليبقى السيناريو المتكرر: وعود دولية لا تُنفذ، واتفاقات هشة تنهار قبل أن يبدأ العمل بها. ومع كل تأجيل، تتكرس سلطة الأجسام السياسية القائمة، رغم انتهاء شرعيتها، وتظل تتصرف في المال العام بلا حسيب أو رقيب، فيما يبقى الشعب الليبي هو الخاسر الأكبر.
هذا التأجيل، بحسب العبيدي، ليس مجرد خلل إداري أو سوء تنظيم، بل هو تأجيل مقصود، يخدم أطرافًا عدة، بعضها محلي والآخر خارجي. فإجراء الانتخابات يعني انتهاء نفوذ أمراء الحرب، وتقليص مساحة الفوضى التي تستفيد منها الميليشيات، وتعني أيضًا زوال مصالح دول تستخدم ليبيا كورقة مساومة في صراعاتها الإقليمية.
يشدد جبريل العبيدي على أن مسؤولية الناتو لا تنحصر في إسقاط القذافي، بل تمتد إلى إسقاط الدولة الليبية نفسها. فبدلًا من أن يساهم التدخل العسكري في بناء دولة جديدة، ترك ليبيا في حالة فوضى، حيث استُبيحت مخازن السلاح، وتدفق السلاح إلى أيدي الجماعات المتطرفة، حتى أصبح عدد قطع السلاح المنتشرة يفوق 40 مليون قطعة، أي ما يكفي لإشعال نزاعات في القارة الإفريقية لعقود.
ويوضح العبيدي أن عدم قيام الناتو بجمع السلاح أو تفكيك الميليشيات بعد إسقاط النظام كان خطأً كارثيًا، حيث أدى ذلك إلى تحويل ليبيا إلى ساحة حرب مفتوحة، تتصارع فيها الميليشيات، ويستغلها المتطرفون، وتُوظف فيها الصراعات الخارجية لصالح قوى إقليمية ودولية.
يؤكد جبريل العبيدي أن الأزمة الليبية لم تكن يومًا نتيجة خلافات داخلية فقط، بل كانت دائمًا أزمة مؤجلة بتواطؤ دولي. فمن اتفاق الصخيرات في المغرب، إلى اجتماعات تونس، ومؤتمرات برلين وباريس، لم يتحقق أي تقدم حقيقي. بل على العكس، ظلت نفس الشخصيات الجدلية تتصدر المشهد، وتُعاد إنتاجها بترتيب مختلف، بينما الحلول الحقيقية تبقى غائبة.
ويتساءل العبيدي: كيف يمكن أن يُبنى حل سياسي في ظل وجود شخصيات متهمة بالإرهاب، وأمراء حرب يسيطرون على القرار؟ ويضيف أن المجتمع الدولي لم يكن جادًا في فرض حل حقيقي، بل ساهم في ترحيل الأزمة من مكان إلى آخر، لإطالة أمد الصراع.
يرى العبيدي أن الانتخابات، رغم كونها ضرورة للخروج من الأزمة، ليست الحل السحري وحدها، إذ لا يمكن إجراؤها في ظل الفوضى الأمنية ووجود الميليشيات التي تمتلك القوة والمال والنفوذ. فالدولة لا تزال غائبة، والقضاء عاجز عن فرض سلطته، وأي انتخابات تُجرى في هذه الظروف ستكون مجرد إعادة تدوير للفوضى بشكل شرعي.
ويؤكد العبيدي أن الحل يبدأ أولًا من تفكيك الميليشيات، وتجفيف منابع تمويلها، واستعادة مؤسسات الدولة، ومن ثم الذهاب إلى انتخابات نزيهة تحت إشراف دولي يضمن عدم وقوعها تحت سيطرة السلاح والمال السياسي.
يطرح جبريل العبيدي فكرة أن الحل الحقيقي للأزمة الليبية لا يأتي من الخارج، بل يجب أن يكون ليبيًا خالصًا، بعيدًا عن أي أجندات دولية أو مؤدلجة. ويؤكد أن مؤتمرًا وطنيًا يضم مشايخ القبائل، وأساتذة الجامعات، والنشطاء الوطنيين، بعيدًا عن الشخصيات الجدلية، يمكن أن يكون بداية فعلية لإنقاذ ليبيا.
ويرى العبيدي أن الحوار الليبي الحقيقي يجب أن يكون على الأرض الليبية، وليس في عواصم العالم، حيث يتم تدوير نفس الأجندات التي لا تخدم الليبيين بقدر ما تخدم صانعيها.
يؤكد جبريل العبيدي أن ليبيا ستبقى دولة مؤجلة ما لم يحدث تغيير حقيقي في المشهد السياسي والأمني، وأن الحل لا يكمن فقط في إجراء انتخابات، بل في استعادة الدولة من قبضة الميليشيات وأمراء الحرب، وإعادة بناء المؤسسات بعيدًا عن المصالح الدولية المتشابكة.
ويضيف العبيدي أن الخلاص الحقيقي يبدأ عندما يتفق الليبيون على أن الحل بأيديهم وحدهم، وأن أي تدخل خارجي لن يكون سوى عامل تأخير يزيد من تعقيد الأزمة، ويجعل ليبيا رهينة لمصالح دولية لا ترى فيها أكثر من ورقة ضغط في لعبة سياسية لا تنتهي.