“تحت بير السلم… حيث يُباع الموت في زجاجات مزيّفة”
في قلب الأحياء المكتظة بجنزور، بعيدًا عن أعين القانون، كانت تجري عملية صامتة، ولكنها قاتلة. منزل عادي لا يلفت الأنظار، لكنه يخفي داخله مصنعًا مصغرًا لصناعة الموت البطيء — منتجات طبية مغشوشة تُباع دون خجل، كأن أرواح الناس لا تعني شيئًا.
داهمت الرقابة على الأغذية والأدوية ذلك المنزل بعد بلاغات متكررة، لكنها وجدت أكثر مما توقعت. عبوات تحمل علامات تجارية أجنبية مقلدة، مواد كيميائية مجهولة المصدر، وأدوات بدائية لتصنيع مستحضرات التجميل والتخسيس.
تبدأ القصة دائمًا من الجشع. الفكرة بسيطة لكن مربحة: إنتاج مكملات وأدوية مغشوشة بأقل التكاليف، ثم بيعها بأسعار مرتفعة. كل ما يحتاجه “التاجر” هو بعض المكونات الرخيصة، عبوات فاخرة، وعلامة تجارية أجنبية مزيفة لتضليل المستهلك.
تُصنع هذه المنتجات في ظروف مزرية، دون أي اعتبارات للسلامة أو الصحة. ولا تخضع لأي نوع من الاختبارات الطبية. يتم تعبئة الكريمات، الحبوب، والمستحضرات يدويًا باستخدام أدوات غير معقمة، ليصبح المنزل البسيط ورشة متكاملة لنشر المرض بدلًا من علاجه.
ضحايا هذه المنتجات كُثر، والقصص مؤلمة.
ليلى، شابة في العشرينات، حلمت بجسم مثالي، فاشترت مكملًا غذائيًا من الإنترنت. “خسّيت 10 كيلو في شهر… لكن صحتي انهارت.” عانت من مشاكل في الكلى، واضطرت لدخول المستشفى لفترة طويلة.
أما سالم، رجل خمسيني، فقد وقع ضحية لحبوب تعزيز القدرة الجنسية. “كنت أبحث عن حل سريع… لكن كاد قلبي يتوقف.”
المشكلة أن هذه المنتجات لا تأتي بتحذيرات واضحة. البائعون لا يهتمون إلا بالمال، والمستهلكون يبحثون عن الحلول السهلة، بغض النظر عن المخاطر.
رغم الحملات الأمنية المكثفة، يبدو أن المشكلة أكبر من قدرات الجهات الرقابية. انتشار مصانع “بير السلم” أصبح ظاهرة تهدد الصحة العامة. “نحتاج إلى قوانين صارمة، وعقوبات مشددة على كل من يعبث بصحة الناس”، يقول أحد مسؤولي الرقابة.
ولكن هل الرقابة وحدها كافية؟ الجواب قطعًا لا. يحتاج الأمر إلى وعي مجتمعي واسع، حيث يجب على المستهلكين التوقف عن شراء المنتجات مجهولة المصدر.
مما يزيد الطين بلة هو الإعلانات المضللة المنتشرة في كل مكان. القنوات الفضائية ومواقع التواصل تمتلئ بإعلانات لمستحضرات معجزة: “كبسولة واحدة تخسرك 15 كيلو”، “كريم يزيل التجاعيد في يومين”، وغيرها من الأكاذيب.
بعض الأطباء أيضًا، للأسف، يشاركون في هذه الجريمة. يروجون لهذه المنتجات في عياداتهم مقابل نسب مالية مغرية، غير آبهين بالعواقب.
انتشار الأدوية المغشوشة لا يهدد فقط صحة الأفراد، بل يُضعف النظام الصحي بالكامل. يعاني الأطباء من صعوبة تشخيص الحالات الناتجة عن استخدام هذه المنتجات، مما يرهق المستشفيات ويزيد من الضغط على القطاع الصحي المتعثر أصلًا.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الاقتصاد الليبي يتضرر بشكل مباشر. تهريب الأدوية وتداولها دون رقابة يفقد الدولة ملايين الدنانير سنويًا، ويُضعف ثقة المستهلك في المنتجات المحلية.
الحل يكمن في تكامل الجهود بين الجهات الرقابية، الإعلام، والمجتمع المدني. حملات توعوية قوية يجب أن تُطلق لتحذير المواطنين من خطورة هذه المنتجات. كما يجب تشديد الرقابة على الأسواق والعيادات، مع فرض عقوبات صارمة تصل إلى السجن والإغلاق الدائم لأي منشأة متورطة في هذا النشاط.
مصانع بير السلم ليست مجرد ورش صغيرة تعمل في الخفاء، بل هي خطر حقيقي على حياة الليبيين. بين الجشع والإهمال، تُباع أرواح الناس يوميًا في زجاجات براقة… فإلى متى سيبقى الموت معروضًا على رفوف الأسواق بلا رقيب؟