في أروقة السياسة المتشابكة، حيث تُكتب فصول الأزمات على صفحات التاريخ العربي، تظل الأزمة في ليبيا. جرحًا مفتوحًا في خاصرة المنطقة، يئن تحت وطأة التدخلات الأجنبية والانقسامات الداخلية. ورغم تعدد المبادرات والمساعي الحثيثة، لا تزال ليبيا تبحث عن طريقها نحو الاستقرار، وسط مشهد سياسي معقد، جعل من فكرة الانتخابات حلمًا معلقًا بين الإرادة الوطنية والمصالح الدولية المتشابكة.
وفي خضم هذا المشهد، تبرز القاهرة كلاعب رئيسي في الساحة الليبية، تحاول أن تجمع شتات الفرقاء، وترسم خارطة طريق تنقذ البلاد من دوامة الفراغ السياسي والصراع المسلح.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تلعب فيها مصر دور الوسيط في النزاع الليبي، فالعلاقات بين البلدين تاريخية، والمصالح الأمنية والاقتصادية تحتم على القاهرة أن تكون حاضرة في أي مسار لحل الأزمة. فمنذ اندلاع الصراع في 2011، تبنت مصر نهجًا قائمًا على دعم الاستقرار، مستضيفةً عدة لقاءات بين الأطراف الليبية المتنازعة، آخرها الاجتماع الأخير الذي جمع بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة.
ووفقًا لما أكده عادل كرموس، عضو مجلس الدولة، في تصريحات رصدتها “أخبار ليبيا 24“ فإن لقاء أعضاء مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة بالقاهرة الأخير جاء في إطار جهود متواصلة لحل الأزمة، وحقق نتائج إيجابية فيما يتعلق بإعادة تشكيل السلطة التنفيذية. ولكن، هل يكفي ذلك لكسر جمود المشهد السياسي؟
يرى طلال الميهوب، عضو مجلس النواب، أن استضافة القاهرة للمحادثات بين البرلمان والمجلس الأعلى للدولة تمثل خطوة جوهرية نحو تحقيق رؤية موحدة تقود إلى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. ولكن لا يزال هناك انقسام بشأن مخرجات هذه الاجتماعات، خاصة مع تمسك عبد الحميد الدبيبة، رئيس الحكومة المنتهية ولايتها، بعدم مغادرة منصبه إلا لصالح حكومة منتخبة.
وهنا يكمن التحدي الحقيقي: هل يمكن التوصل إلى توافق سياسي يرضي جميع الأطراف دون تدخل خارجي؟ أم أن الانقسامات ستستمر لتُبقي البلاد في دوامة عدم الاستقرار؟
وسط هذه التعقيدات، يتهم البعض البعثة الأممية بالتلاعب بالأزمة الليبية، كما صرّح بذلك جبريل أوحيدة عضو مجلس النواب، مشيرًا إلى أن بعض الدول تمارس ضغوطًا على المشهد السياسي الليبي عبر هذه البعثة، مما يثير علامات استفهام حول جدية المجتمع الدولي في تحقيق حل حقيقي.
وفي ظل هذا المشهد، تظل اللجنة الاستشارية محل جدل، فبينما يرى البعض أنها خطوة إيجابية لتنظيم العملية الانتخابية، يحذر آخرون من أنها قد تتحول إلى أداة لإطالة أمد الأزمة إذا خرجت عن دورها الفني المحدد.
يبقى إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية هو الحل الوحيد القادر على إنهاء المرحلة الانتقالية، لكن العقبات التي تعترض هذا المسار ليست سهلة، إذ تتطلب توافقًا واسعًا بين الأطراف الفاعلة، بالإضافة إلى تأمين بيئة سياسية وأمنية مناسبة لإجراء انتخابات نزيهة وشفافة.
ومع أن بعض المؤشرات توحي بوجود انفراجة، إلا أن تعنت بعض القوى السياسية، واستمرار التدخلات الخارجية، يجعل من الصعب الجزم بأن ليبيا باتت قريبة من تجاوز أزمتها.
في النهاية، تظل الكرة في ملعب الليبيين أنفسهم، فمهما بلغت الوساطات الإقليمية والدولية، يبقى الحل الحقيقي في قدرة الأطراف الليبية على تقديم تنازلات حقيقية لصالح مستقبل البلاد.
ومع استمرار الجهود المصرية والعربية لدعم هذا المسار، يبقى السؤال الأهم: هل ينجح الليبيون أخيرًا في كتابة فصل جديد من تاريخهم، خالٍ من التدخلات الأجنبية والانقسامات؟
فالأيام القادمة وحدها كفيلة بالإجابة عن هذا السؤال المصيري