في ظل المشهد السياسي المتشابك، حيث تشتد التناقضات وتتصاعد التحديات، حذر النائب الأول لرئيس مجلس النواب، فوزي النويري، في بيان له تحصلت “أخبار ليبيا 24” على نسخة منه، من تعمق الأزمة بفعل الانقسام المؤسساتي والتدخلات الخارجية في ليبيا. حديثه عن ضرورة إجراء انتخابات برلمانية عاجلة لا يأتي من فراغ، بل يعكس حقيقة لا يمكن تجاهلها: أن الشرعية أصبحت عملة نادرة في المشهد الليبي، وأن استعادتها تتطلب قرارات جريئة تتجاوز المصالح الضيقة.
لم يكن طرح النويري بشأن الانتخابات البرلمانية مجرد شعار سياسي، بل هو محاولة للعودة إلى جذر الأزمة: فقدان الشرعية وانقسام المؤسسات. فمنذ سنوات، تعيش ليبيا في حالة من الاضطراب السياسي الناجم عن تعدد الأجسام الحاكمة وغياب سلطة مركزية قادرة على فرض قراراتها. في ظل هذا الواقع، أصبحت المؤسسات الوطنية ساحة للصراعات بدلاً من أن تكون أدوات لحلها.
تأكيد النويري على ضرورة إجراء انتخابات برلمانية عاجلة يعكس قناعته بأن الاستمرار في الوضع الراهن يعني المزيد من التآكل للمؤسسات، والمزيد من إفساح المجال أمام التدخلات الخارجية التي جعلت من ليبيا مسرحًا مفتوحًا لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية. الانتخابات، وفق رؤيته، هي الوسيلة الوحيدة لقطع الطريق أمام هذه التدخلات، وإعادة توحيد المؤسسات على أسس شرعية تستند إلى إرادة الشعب الليبي، لا إلى توافقات سياسية هشة.
أشار النويري إلى تجربة الانتخابات البلدية كنموذج يعكس رغبة الليبيين في اختيار ممثليهم بحرية، وقدرة المؤسسات الوطنية على تنظيم انتخابات نزيهة رغم التحديات الأمنية والسياسية. ورغم أن هذه الانتخابات لم تكن خالية من العوائق، فإنها شكلت بارقة أمل في إمكانية تجاوز الأزمة عبر صناديق الاقتراع.
لكن، كما يؤكد النويري، فإن هذا المسار الديمقراطي لا يسير دون عراقيل. هناك أطراف سياسية واقتصادية مستفيدة من الوضع الراهن، تعمل بكل الطرق على تعطيل الانتخابات البرلمانية، لأنها تدرك أن أي عملية انتخابية نزيهة تعني انتهاء نفوذها وامتيازاتها. هذه الأطراف لا تتردد في استخدام كل الوسائل، من التشكيك في إمكانية إجراء الانتخابات، إلى افتعال الأزمات الأمنية، وحتى محاولة فرض واقع سياسي جديد يخدم مصالحها.
في حديثه، لم يخفِ النويري انتقاده للدور الذي تلعبه البعثة الأممية في ليبيا. فمن المفترض أن تكون هذه البعثة جزءًا من الحل، إلا أنها، وفق وصفه، أصبحت أداة لإطالة الأزمة عبر إعادة إنتاج نفس الأجسام السياسية التي كانت سببًا في الانقسام. بدلًا من الدفع نحو انتخابات حرة ونزيهة، تكرّس البعثة الأممية واقعًا سياسيًا مشوهًا يعزز من حالة الجمود، ويفتح المجال أمام المزيد من التدخلات الخارجية.
هذا الطرح يعكس إحباطًا واسعًا داخل الأوساط السياسية الليبية من الدور الذي تلعبه الأمم المتحدة في المشهد الليبي. فعوضًا عن تقديم حلول جذرية، اكتفت البعثة بمحاولات التوفيق بين الأطراف المتصارعة دون معالجة جذور المشكلة، مما جعلها، بشكل أو بآخر، جزءًا من الأزمة بدلًا من أن تكون مفتاحًا لحلها.
في ظل هذه المعطيات، وجّه النويري دعوة صريحة إلى المفوضية الوطنية العليا للانتخابات للبدء فورًا في اتخاذ الإجراءات اللازمة لإجراء الانتخابات البرلمانية دون أي تسويف. فوفق رؤيته، لم يعد هناك وقت لإضاعة المزيد من الفرص، خاصة وأن تأجيل الانتخابات يعني استمرار حالة الفراغ السياسي التي تعيشها البلاد.
لكن هذه الدعوة لم تقتصر على المفوضية فحسب، بل شملت جميع المسؤولين الليبيين، محملًا إياهم مسؤولياتهم الوطنية والتاريخية في هذه المرحلة الحساسة. فالمرحلة القادمة، كما يراها، تتطلب مواقف واضحة وشجاعة بعيدًا عن الحسابات الضيقة والمصالح الفئوية.
في ختام حديثه، وجّه النويري رسالته إلى الشعب الليبي، داعيًا إياه إلى التمسك بحقه في اختيار ممثليه، ورفض أي محاولات لتعطيل الانتخابات أو فرض واقع سياسي لا يعبر عن إرادته. في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة والتحديات الأمنية المتزايدة، أصبح الليبيون أكثر وعيًا بأن الحل لا يمكن أن يكون إلا ليبيًا، وأن انتظار الحلول الخارجية لم يعد خيارًا ممكنًا.
بين الانقسام المؤسساتي والتدخلات الخارجية، يبدو المشهد الليبي معقدًا إلى حد يصعب معه التفاؤل. لكن وسط هذا التعقيد، يظل هناك صوت يدعو إلى العودة إلى إرادة الشعب، وإلى صناديق الاقتراع كسبيل وحيد لاستعادة الشرعية. حديث النويري، وإن كان جزءًا من الخطاب السياسي، إلا أنه يعكس حقيقة واضحة: ليبيا لا يمكن أن تستعيد عافيتها إلا بقرار وطني مستقل، بعيدًا عن حسابات الداخل والخارج، وبإرادة لا تقبل الوصاية أو الإملاءات. فهل يستجيب الجميع لهذا النداء قبل أن يكون الأوان قد فات؟