على امتداد عقد من الزمن، ظلت ليبيا الوجهة الأبرز لتدفقات المهاجرين الباحثين عن فرصة حياة أفضل أو طريق عبور نحو أوروبا. لكن تقريرًا صادرًا عن منظمة الهجرة الدولية كشف عن أرقام غير مسبوقة، إذ تجاوز عدد المهاجرين في البلاد 824,131 مهاجرًا، في أعلى معدل منذ عام 2016، مما يسلط الضوء على التعقيدات المستمرة التي تحكم المشهد الليبي، حيث تتشابك العوامل السياسية والاقتصادية والأمنية لتجعل من ليبيا نقطة جذب وعبور للمهاجرين.
ليست هذه المرة الأولى التي تكون فيها ليبيا مركزًا رئيسيًا للمهاجرين، لكنها المرة الأولى التي تصل فيها الأعداد إلى هذا المستوى، رغم الجهود الدولية والإقليمية لضبط الحدود والحد من تدفقات الهجرة غير الشرعية. التوزيع الجغرافي للمهاجرين في ليبيا يعكس ديناميكيات مختلفة، إذ يتوزعون على أكثر من 100 بلدية، مع تمركز أكبر في المدن الساحلية مثل طرابلس وبنغازي ومصراتة، حيث يسعى المهاجرون للبحث عن فرص عمل أو انتظار فرصة العبور إلى الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط.
ماذا تخبرنا الأرقام؟ يكشف التقرير عن زيادة بنسبة 5% في عدد المهاجرين مقارنة بالدورة السابقة لجمع البيانات، وهي زيادة ملحوظة تؤكد استمرار تدفقات الهجرة رغم الظروف الأمنية والاقتصادية المتدهورة. وتعود هذه الزيادة، جزئيًا، إلى الاضطرابات في دول المصدر، لا سيما السودان، الذي شهد موجات لجوء واسعة بسبب النزاع المسلح، مما جعل السودانيين يشكلون النسبة الأكبر بين المهاجرين بنسبة 29%، يليهم المهاجرون القادمون من النيجر (23%)، ثم مصر (20%) وتشاد (10%).
تشير الأرقام إلى أن طرابلس تستقطب العدد الأكبر من المهاجرين بنسبة 16%، تليها بنغازي ومصراتة بنسبة 10% لكل منهما، مما يعكس النشاط الاقتصادي في هذه المدن، وإن كان محفوفًا بالتحديات. أكثر من نصف المهاجرين يتمركزون في المناطق الساحلية، حيث يعمل معظمهم في قطاعات غير رسمية مثل البناء والتصنيع والزراعة والخدمات المنزلية. ورغم إسهامهم في دعم الاقتصاد المحلي، فإن أوضاعهم القانونية والمهنية تظل غير مستقرة، إذ يعتمد 77% منهم على اتفاقيات عمل شفهية، في حين لا يملك سوى 2% عقود عمل رسمية، مما يعرضهم لاستغلال خطير وانعدام الأمان الوظيفي.
إلى جانب التحديات الاقتصادية، يعاني المهاجرون من ظروف معيشية صعبة، إذ يفتقر 75% منهم إلى الرعاية الصحية، بينما يعاني 18% من نقص في الخدمات الأساسية، مثل المياه النظيفة والمسكن الملائم. وأشار التقرير إلى أن 9% فقط من النساء و28% من الرجال يحصلون على مياه شرب كافية، وهو مؤشر خطير على التدهور في مستوى المعيشة.
على الصعيد التعليمي، تبقى الفرص شبه معدومة، إذ إن 19% فقط من أطفال المهاجرين مسجلون في المدارس، وهو رقم صادم يكشف عن واقع غير مشجع للأجيال الجديدة، خصوصًا أن النسب الأدنى للتعليم تسجل بين المهاجرين من دول إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
رغم هذه الظروف القاسية، فإن خيارات المهاجرين تبقى محدودة. ووفقًا للتقرير، فإن 76% من المهاجرين ينوون البقاء في ليبيا، إما بسبب عدم قدرتهم على العودة أو أملهم في تحسن أوضاعهم. في المقابل، يسعى 36% للعودة إلى أوطانهم، وهو خيار معقد في ظل الأوضاع الأمنية غير المستقرة في بلدانهم الأصلية. أما الذين يحلمون بالوصول إلى أوروبا، فيشكلون نسبة 16%، رغم المخاطر الجسيمة التي تكتنف رحلتهم عبر البحر المتوسط، حيث تنتهي محاولات كثيرين منهم بمآسٍ إنسانية غرقًا أو احتجازًا في مراكز المهاجرين.
رغم كل الجهود الدولية والمحلية لتنظيم ملف الهجرة، تبقى ليبيا ساحة مفتوحة لهذه الظاهرة، مع غياب سياسات واضحة لضمان حقوق المهاجرين وتحسين ظروفهم. وبينما تسعى الدول الأوروبية للحد من تدفقات المهاجرين عبر البحر المتوسط، يظل المهاجرون عالقين بين واقع صعب في ليبيا وحلم مجهول في أوروبا. في النهاية، تبرز الحاجة إلى استراتيجيات شاملة تتعامل مع الهجرة كملف إنساني وتنموي، وليس مجرد أزمة أمنية تحتاج إلى حلول مؤقتة.