تواجه السياسة الخارجية الليبية انتقادات متزايدة بسبب الإنفاق الضخم على بعثاتها الدبلوماسية رغم انعدام الجدوى الفعلية للعديد منها. فبينما تغرق البلاد في أزمات سياسية واقتصادية خانقة، تُخصص ميزانيات طائلة لسفارات وقنصليات لا تُمارس دورًا ملموسًا في تعزيز المصالح الوطنية، وسط مطالبات متزايدة بإصلاح جذري يعيد توجيه الدبلوماسية الليبية نحو أهداف واضحة وفعالة.
على الرغم من غياب جاليات ليبية كبيرة في بعض الدول، تحتفظ ليبيا بعشرات السفارات والقنصليات التي لا يبدو أن لها دورًا حقيقيًا في خدمة المواطنين أو تعزيز العلاقات الثنائية. فوفقًا لتقارير رسمية، تم إنفاق ملايين الدنانير الليبية على تشغيل هذه البعثات، بما يشمل رواتب الدبلوماسيين والمصاريف التشغيلية، دون أن يظهر مردود يُذكر على مستوى التعاون الاقتصادي أو السياسي.
يقول المركز الليبي للدراسات الأمنية والعسكرية إن “الاستمرار في تمويل بعثات دبلوماسية بلا فائدة يعكس خللًا جوهريًا في هيكلة السياسة الخارجية للبلاد”، مشددًا على أن “التمثيل الدبلوماسي لا يجب أن يكون عبئًا ماليًا إضافيًا على دولة تعاني من اضطرابات اقتصادية مزمنة”.
لا يمكن فصل مشكلة الإنفاق غير المبرر عن الواقع السياسي الليبي المتشظي. فمنذ سنوات، تعاني ليبيا من انقسام حاد بين حكومتين متنافستين، ما أدى إلى تضارب في تعيين السفراء والقناصل، وأحيانًا إلى ازدواجية في التمثيل الخارجي. بعض الدول بات لديها سفيران ليبيان يتبع كل منهما حكومة مختلفة، ما يعكس الفوضى العارمة التي ضربت الجهاز الدبلوماسي الليبي.
ويؤكد خبراء أن هذا الانقسام لم يقتصر على التمثيل الدبلوماسي فحسب، بل امتد ليؤثر على قدرة ليبيا في التفاوض مع الأطراف الدولية، حيث بات من الصعب تحديد جهة رسمية واحدة تمثل البلاد. وهذا الوضع عزز من فرص الابتزاز السياسي والاقتصادي من قبل بعض الدول التي استغلت الفراغ الدبلوماسي لتحقيق مكاسب على حساب ليبيا.
لم تسلم البعثات الدبلوماسية الليبية من شبهات الفساد التي تطال مؤسسات الدولة المختلفة. فقد كشفت تقارير عن تعيينات دبلوماسية لا تستند إلى الكفاءة، بل إلى الولاءات والمحسوبيات. كما أن بعض السفارات باتت تُستخدم كواجهة لتحقيق مصالح شخصية لمسؤولين متنفذين، من خلال عقود مشبوهة وتأجير مقرات بأسعار مبالغ فيها.
وأشار المركز الليبي للدراسات الأمنية والعسكرية إلى أن “إصلاح الجهاز الدبلوماسي أصبح ضرورة ملحة لحماية سيادة الدولة ومنع استمرار الهدر المالي”، مشددًا على أهمية فرض رقابة صارمة على الإنفاق الخارجي وإجراء مراجعة شاملة لقائمة السفارات العاملة.
في ظل الانكماش الاقتصادي الذي تعاني منه ليبيا، يتساءل كثيرون: هل تحتاج البلاد فعلًا إلى هذا العدد الكبير من السفارات والبعثات الدبلوماسية؟ بعض الدول الكبرى، مثل ألمانيا أو اليابان، تمتلك تمثيلًا دبلوماسيًا محدودًا يقتصر على الدول التي تربطها بها مصالح حيوية، فلماذا تصر ليبيا، التي تمر بأزمات متتالية، على الاحتفاظ بهذا العدد الضخم من السفارات؟
ويرى خبراء في العلاقات الدولية أن الوقت قد حان لإعادة هيكلة الدبلوماسية الليبية عبر تقليص عدد البعثات وتركيز الجهود على تعزيز العلاقات مع الدول التي يمكن أن تحقق فوائد اقتصادية أو سياسية ملموسة.
أمام هذا الواقع المتأزم، يطرح المركز الليبي للدراسات الأمنية والعسكرية مجموعة من الحلول المقترحة لإصلاح المنظومة الدبلوماسية الليبية:
إن استمرار الإنفاق غير المبرر على بعثات دبلوماسية بلا فائدة، وسط أزمة اقتصادية طاحنة، يضع الحكومة الليبية أمام مسؤولية تاريخية. فإما أن تتخذ خطوات جادة لإصلاح الجهاز الدبلوماسي، وإما أن تستمر حالة الفوضى التي ستزيد من عزلة ليبيا الدولية وتعمق أزماتها الداخلية. الأيام القادمة وحدها ستكشف ما إذا كانت هناك إرادة سياسية حقيقية لتصحيح هذا المسار، أم أن الهدر المالي سيظل سيد الموقف في دبلوماسية ليبيا المتعثرة.