لم يكن النظام الفيدرالي في ليبيا محض فكرة سياسية عابرة، بل كان أساسًا لتوازنٍ دقيقٍ بين الأقاليم الثلاثة التي شكلت المملكة الليبية منذ استقلالها. وفقًا للدبلوماسي السابق حسن الصغير، فإن الفيدرالية لم تكن سببًا في الانقسام، بل كانت الضامن الفعلي لوحدة ليبيا وتماسكها السياسي والاجتماعي، قبل أن تُلغى بضغطٍ خارجي لصالح حكومة مركزية أضعف.
إرث الفيدرالية الليبية: توازنٌ سياسي مفقود
منذ إعلان الاستقلال وحتى عام 1963، سارت ليبيا وفق نظام اتحادي منح الأقاليم الثلاثة مجالس تشريعية مستقلة، سمح لها بإدارة شؤونها المحلية ضمن إطار وطني موحَّد. لم تشهد تلك الفترة أي دعوات انفصالية، بل كانت الوحدة الوطنية متجليةً في أوضح صورها، ما يطرح تساؤلات حول الأسباب الحقيقية التي دفعت لإلغاء النظام الفيدرالي.
النفط والتدخلات الخارجية: مفتاح التحوّل السياسي
يؤكد حسن الصغير أن اكتشاف النفط وبداية تصديره كانا عاملًا حاسمًا في تغيير المشهد السياسي الليبي، حيث وجدت القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا، أن التعامل مع حكومة مركزية أسهل وأقل تعقيدًا من التعامل مع حكومات إقليمية تتمتع باستقلالية تشريعية. وبدلًا من الاحتكام إلى استفتاء شعبي يحدد مستقبل النظام السياسي، تم تمرير قرار إلغاء الفيدرالية عبر المجالس التشريعية، في ظل واحدة من أضعف الحكومات التي شهدتها المملكة الليبية آنذاك.
بين سوء الفهم والتدجين السياسي.. هل الفيدرالية تهدد وحدة ليبيا؟
أحد أبرز النقاط التي يثيرها الصغير هو الخلط الحاصل بين الفيدرالية والانفصال، حيث يرى أن هذا الالتباس ليس سوى نتيجة لقراءة سطحية للتاريخ أو لمصالح سياسية ضيقة. ففي حين أن الفيدرالية تعني توزيع السلطات بشكل عادل بين الأقاليم، إلا أن خصومها يروجون لفكرة أنها دعوة لتفكيك ليبيا.
في هذا السياق، أشار الصغير إلى تصريح القائد العام للقوات المسلحة المشير خليفة حفتر، الذي أكد فيه أن وحدة ليبيا “خط أحمر”. البعض قرأ هذا التصريح على أنه رفضٌ صريحٌ للفيدرالية، بينما يرى الصغير أن هذا الفهم مجانب للصواب، لأن العديد من الدول التي تتبنى النظام الفيدرالي يتمسك قادتها بوحدة أراضيها دون تناقض بين المفهومين.
هل كان استمرار الفيدرالية ليمنع انقلاب سبتمبر؟
ضمن تحليله التاريخي، يطرح حسن الصغير فرضية مفادها أن النظام الفيدرالي، لو استمر في ليبيا، ربما كان ليحول دون نجاح ما حدث في سبتمبر 1969، حيث يرى أن تماسك الأقاليم عبر مجالسها التشريعية كان ليشكل سدًّا منيعًا أمام أي محاولة استفراد بالسلطة. إلا أن إلغاء الفيدرالية أضعف المشهد السياسي، وخلق مركزية هشّة سهلت الطريق أمام التغيير الراديكالي.
الفيدرالية.. بين الأوهام والحقائق
يشدد الصغير على أن الفيدرالية ليست حلًا لمشاكل التنمية المكانية أو تحسين الخدمات، بقدر ما هي آلية لضمان التوزيع العادل للسلطة والموارد بين الأقاليم. الفيدرالية ليست مجرد تقسيم جغرافي، بل هي عقد سياسي ينظم العلاقة بين المركز والأطراف وفق توازن دقيق يحول دون هيمنة طرف على آخر.
نظرة مستقبلية.. هل تعود الفيدرالية إلى ليبيا؟
مع استمرار الجدل حول مستقبل النظام السياسي في ليبيا، تبقى الفيدرالية واحدة من الحلول التي تطرح نفسها بقوة، خصوصًا في ظل التجاذبات السياسية التي جعلت من المركزية عبئًا على استقرار البلاد. وبينما يرى البعض أنها خطوة للوراء، يؤكد مؤيدوها، ومنهم حسن الصغير، أنها قد تكون المفتاح لمستقبلٍ أكثر توازنًا وشراكةً بين مختلف مكونات الوطن الليبي.
في النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن للفيدرالية أن تكون صيغة سياسية متجددة لمستقبل ليبيا، أم أن الإرث السياسي الذي أُسس عليه النظام المركزي سيظل عقبةً أمام أي محاولة لإحيائها؟ الإجابة عن هذا السؤال لا تعتمد فقط على القراءات التاريخية، بل أيضًا على التوافق الوطني بين الأطراف السياسية المختلفة، ومدى استعدادها للقبول بنظام يحقق العدالة في السلطة قبل أن يحقق الاستقرار السياسي.