في شوارع ليبيا الممتدة من طرابلس إلى بنغازي، ومن سبها إلى البيضاء، يعكس صمت الأسواق صخب الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد. مواطنون يطوفون بين المحال، أعينهم تسبق خطواتهم بحثًا عن أسعارٍ “معقولة” لبضائع باتت تُسعَّر وفق مزاج التجار، لا وفق قواعد السوق. هذا المشهد لم يكن وليد اللحظة، بل هو تراكمٌ لسنواتٍ من الفوضى الاقتصادية، والسياسات المتخبطة، والمصالح المتشابكة التي جعلت من الاقتصاد الليبي ساحة مفتوحة لمن يملك النفوذ والمال.
لطالما كانت الأسواق مرآةً تعكس صحة الاقتصاد، وفي ليبيا تعكس هذه الأسواق وجهاً آخر للواقع المؤلم. فبدل أن يكون العرض والطلب هما المحددان الرئيسيان للأسعار، أصبح التجار والمستوردون هم الحكّام الفعليون لحركة السوق، يتلاعبون بالأسعار وفق أهوائهم، مدفوعين بغياب الرقابة الفاعلة، وتراخي الجهات التنفيذية.
“الأمر لم يعد مجرد ارتفاع اعتيادي للأسعار، بل هو استغلال ممنهج”، يقول أحد المواطنين في سوق المشير بطرابلس، مضيفًا: “المواد الغذائية، السلع الأساسية، حتى الأدوات المنزلية، كل شيء تضاعف سعره خلال سنوات قليلة دون مبرر منطقي!”.
فإذا كانت الدولة قد وفرت الاعتمادات المستندية لتسهيل الاستيراد وتأمين البضائع بأسعار معقولة، فلماذا إذًا لم تنخفض الأسعار؟ الإجابة تكمن في غياب آلية صارمة لمتابعة تنفيذ هذه الاعتمادات، حيث يحصل بعض التجار على هذه التسهيلات ثم يطرحون بضائعهم بأسعار السوق السوداء، مما يحقق لهم أرباحًا طائلة على حساب المواطن البسيط.
عندما أعلنت السلطات المالية عن تفعيل الاعتمادات المستندية، تنفس الليبيون الصعداء، متوقعين أن تؤدي هذه الخطوة إلى انخفاض الأسعار وكبح جماح التضخم. لكن ما حدث كان عكس ذلك تمامًا. الأسعار واصلت ارتفاعها، والمواطن لم يلمس أي تحسن في السوق.
يرى خبير اقتصادي أن السبب الرئيسي لاستمرار ارتفاع الأسعار رغم توفير الاعتمادات المستندية يعود إلى عدم توجيه هذه الاعتمادات بالشكل الصحيح، إضافةً إلى استمرار وجود اقتصاد موازٍ يتحكم في السوق. “الاعتمادات المستندية وحدها ليست الحل، بل يجب أن يكون هناك نظام رقابي صارم يمنع تسرب السلع إلى السوق السوداء”، يوضح الخبير الاقتصادي.
ويضيف: “هناك مشكلة أخرى تتعلق بانعدام الاستقرار السياسي، والذي يجعل كل حكومة تعمل بمعزل عن الأخرى، وبالتالي لا توجد سياسات اقتصادية موحدة”.
في ليبيا اليوم، لا تقتصر الأزمات على الاقتصاد فحسب، بل تمتد إلى السياسة التي تشكل عاملًا أساسيًا في تفاقم الوضع. فوجود حكومتين متنازعتين يعني وجود سياستين اقتصاديتين متضاربتين، ما يخلق حالة من الفوضى تضعف أي جهود للسيطرة على الأسعار أو تحسين الوضع المعيشي.
يقول أحد المواطنين في بنغازي: “كل حكومة تتهم الأخرى بالفساد وسوء الإدارة، لكن في النهاية، المواطن هو من يدفع الثمن. الأسعار تحلق في السماء، والدينار يفقد قيمته، ولا أحد يتحرك لإنقاذ الوضع”.
ليست السياسة وحدها المسؤولة، فغياب الرقابة الحكومية على الأسواق يعد من أكبر الأسباب وراء الانفلات السعري. لا توجد جهة رسمية تضبط الأسعار أو تفرض عقوبات على المحتكرين، مما يسمح للتجار بفرض تسعيراتهم الخاصة دون خوف من المحاسبة.
يقول أحد التجار في سوق الكريمية: “نحن نشتري البضائع بأسعار مرتفعة بسبب قلة العرض، فكيف تريدون منا أن نبيعها بأرخص؟ السوق تحكمه قوانين العرض والطلب، والحكومة إن أرادت خفض الأسعار، فعليها أن توفر لنا بيئة اقتصادية مستقرة”.
لكن الواقع يؤكد أن بعض التجار يساهمون عمدًا في رفع الأسعار عبر تخزين البضائع وخلق أزمات مصطنعة، فيما يبقى المواطن العادي عاجزًا عن مواجهة هذا الجشع.
في ظل هذا الوضع، تتجه الأنظار إلى الحكومة ومصرف ليبيا المركزي لاتخاذ إجراءات جادة تحد من انفلات الأسعار. فالحل لا يكمن فقط في ضخ المزيد من الاعتمادات المستندية، بل في وضع سياسات رقابية صارمة، ومعالجة الانقسام السياسي الذي يعطل أي محاولات للإصلاح الاقتصادي.
إضافة إلى ذلك، يرى الخبير الاقتصادي أن “إعادة تفعيل دور مؤسسات حماية المستهلك، وضبط حركة السوق، ومنع الاحتكار، ستكون خطوات ضرورية لكبح الأسعار وتحقيق التوازن الاقتصادي”.
لكن هل هذه الحلول ممكنة في ظل المشهد السياسي الحالي؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه الليبيون اليوم، في انتظار إجابة تحمل معها بارقة أمل تعيد للأسواق استقرارها، وللمواطن قدرته الشرائية التي باتت تتآكل يومًا بعد يوم.