في أروقة لاهاي، حيث يُنسج التاريخ بأقلام العدالة، اجتمع ممثلو هولندا وسويسرا وبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، في لقاء لم يكن عادياً، بل كان بمثابة صرخة في وجه الإفلات من العقاب، وإعلان واضح أن العدالة لا تموت، حتى لو تأخرت!
لطالما كانت ليبيا ساحة لصراعات سياسية، وحروب داخلية، وكأنها مسرح لمأساة متكررة لا تُكتب لها نهاية. لكن هذه المرة، جاء صوت القانون ليؤكد أن الجرائم التي ارتُكبت لن تذهب أدراج الرياح، وأن المحاسبة ليست مجرد شعار سياسي، بل التزام قانوني وأخلاقي.
المحكمة الجنائية.. ضوء في العتمة
المحكمة الجنائية الدولية، التي مُنحت تفويضاً أممياً للتحقيق في الجرائم الليبية منذ عام 2011، باتت اليوم أحد المفاتيح الحاسمة لضمان العدالة والمساءلة. فرغم تعقيد المشهد السياسي الليبي، إلا أن المجتمع الدولي يؤكد أن لا أحد فوق القانون، وأن محاسبة مرتكبي الجرائم ليست قضية قابلة للتفاوض أو التسوية السياسية.
تصريحات الرؤساء المشاركين في الاجتماع حملت رسالة قوية: “العدالة المستقلة والنزيهة هي أساس السلام الدائم”، وكأنهم يبعثون رسالة إلى كل من يعتقد أن العدالة يمكن أن تكون أداة سياسية بيد هذا الطرف أو ذاك، بأن الحقيقة لا يمكن أن تُزيف، وأن العدالة تظل فوق كل الاعتبارات.
لا عدالة بلا تعاون دولي
ولكن، كيف يمكن تحقيق هذه العدالة في ظل عراقيل سياسية وقانونية؟ هنا تكمن أهمية التعاون الدولي، إذ دعا الرؤساء المشاركون الدول الأعضاء إلى تقديم الدعم الكامل للمحكمة، بدءاً من السماح لمحققيها بالدخول إلى ليبيا، ووصولاً إلى تنفيذ أوامر الاعتقال بحق المتورطين في الجرائم.
هذا التعاون ليس مجرد إجراء تقني، بل هو رسالة للعالم بأسره بأن الإفلات من العقاب لم يعد خياراً، وأن كل من تورط في انتهاك حقوق الإنسان سيجد نفسه في قفص العدالة، عاجلاً أم آجلاً.
العدالة والمصالحة.. وجهان لعملة واحدة
لطالما جادل البعض بأن التركيز على المحاسبة قد يُعرقل جهود المصالحة في ليبيا، ولكن الاجتماع الأخير في لاهاي نسف هذه الحجة تماماً. فالرؤساء المشاركون أكدوا بوضوح أن المصالحة الحقيقية لا يمكن أن تتم دون تحقيق العدالة أولاً، وأن السلام المبني على تجاهل الجرائم الماضية ليس سلاماً حقيقياً، بل مجرد هدنة هشة سرعان ما تنهار.
فالضحايا وأسرهم لا يمكن أن يمضوا قُدماً دون أن يشعروا بأن حقوقهم قد أُعيدت إليهم، وأن العدالة قد أنصفتهم. وهنا تأتي أهمية دور المحكمة الجنائية في وضع الأسس التي تضمن أن ما حدث في ليبيا لن يتكرر، وأن عهد الإفلات من العقاب قد انتهى.
لا إفلات من العقاب.. مهما طال الزمن
من اللافت أن الاجتماع لم يكتفِ بمجرد البيانات الدبلوماسية، بل كان بمثابة تعهد دولي بالاستمرار في ملاحقة المتورطين في الجرائم، بغض النظر عن مواقعهم السياسية أو نفوذهم الحالي. فالعدالة الحقيقية لا تعرف التقادم، وما جرى في ليبيا من انتهاكات لن يُطوى في سجلات النسيان، بل ستظل الأبواب مفتوحة أمام المحاكمات حتى ينال كل مجرم جزاءه.
وهنا يكمن الدرس الأكبر: لا يمكن لأي مجتمع أن ينهض ما لم يكن العدل هو الأساس، وما لم تكن المحاسبة هي القاعدة. ليبيا اليوم أمام مفترق طرق، فإما أن تختار طريق العدالة الحقيقية التي تضمن استقرارها، وإما أن تستمر في دوامة الصراعات التي لا تنتهي.
حين تتحدث العدالة، يصمت الجميع
ما حدث في لاهاي ليس مجرد اجتماع عابر، بل هو تأكيد على أن العالم لا يزال يراقب، وأن الجرائم لا يمكن طيّها تحت ركام الفوضى السياسية. العدالة ليست رفاهية، بل ضرورة ملحة لضمان مستقبل أكثر استقراراً وأمناً.
وفي النهاية، قد تتأخر العدالة، ولكنها لا تُهزم أبداً!