في تطور لافت يعكس تحوّلًا حادًا في الموقف التركي من الأزمة الليبية، استقبلت أنقرة الفريق صدام حفتر، رئيس أركان القوات البرية التابعة للقيادة العامة، استقبالًا رسميًا مهيبًا، جسّد على نحو صريح رضوخ تركيا للأمر الواقع الجديد في ليبيا، والقبول العلني بشراكة مع الجيش الوطني الليبي بقيادة الشرق.
اللقاء الذي ضم وزير الدفاع التركي يشار غولر، وقائد القوات البرية سلجوق بيراكتار أوغلو، وتخلله عزف النشيد الليبي واستعراض حرس الشرف، لم يكن مجرد بروتوكول دبلوماسي، بل جاء تتويجًا لتحول تركي استراتيجي فرضته معادلة الميدان الليبي، بعد أن تآكلت ثقة أنقرة بحلفائها في غرب البلاد، نتيجة تفشي الفوضى، وتضارب الولاءات، وتراجع الفاعلية الأمنية.
أنقرة، التي راهنت طيلة سنوات على الميليشيات والسلطات المتعاقبة في طرابلس، وجدت نفسها اليوم مضطرة إلى فتح قنوات مع الطرف الأقوى والأكثر تنظيمًا وانتشارًا على الأرض، وهو الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر. فالقيادة العامة تُسيطر فعليًا على أكثر من ثلثي البلاد، وتمتلك هيكلًا عسكريًا متماسكًا، وشراكات إقليمية مؤثرة، وهي معطيات لم تعد تركيا قادرة على تجاهلها إذا ما أرادت الحفاظ على مصالحها في ليبيا.
هذه الزيارة لا تعني انقلابًا جذريًا في السياسة التركية، لكنها تعكس انزياحًا واقعيًا عن سياسة العناد والرهانات الخاسرة. فالمصالح الاستراتيجية لأنقرة، خصوصًا في ملفات الطاقة، وإعادة الإعمار، وتوازن النفوذ في المتوسط، لم تعد تحتمل تجاهل قوة بحجم الجيش الليبي، الذي يتمدد جنوبًا ويتواصل مع العمق الأفريقي، ويتماسك إداريًا مقارنة بالانقسام الواضح في غرب البلاد.
زيارة صدام حفتر تمثّل أيضًا رسالة مزدوجة؛ الأولى إلى الداخل الليبي، مفادها أن تركيا لم تعد حكرًا على طرف دون آخر، والثانية إلى القوى الإقليمية والدولية، مفادها أن أنقرة قررت التماشي مع المعادلات الواقعية في ليبيا، بدلًا من الاستمرار في خوض صراعات بالوكالة.
وبينما تحاول تركيا إبقاء المشهد ضبابيًا إعلاميًا، فإن الرمزية العسكرية للاستقبال، والمصافحة رفيعة المستوى، تُثبت أن القيادة العامة باتت على طاولة أنقرة، لا باعتبارها عدوًا، بل شريكًا محتملاً في المرحلة المقبلة.
الجيش الليبي، من جانبه، يبدو أنه فرض هذا التحول دون أن يغير من تموضعه أو خطابه. فهو لم يذهب إلى أنقرة باحثًا عن دعم، بل استُقبل فيها باعتباره جزءًا من معادلة الحكم والأمن والاستقرار في ليبيا، وهو ما يُعدّ انتصارًا استراتيجيًا ضمنيًّا في ساحة التحالفات المتشابكة.