ليبيا 24
انقسام داخلي وقلق شعبي
تعيش طرابلس على وقع توترات متصاعدة، وسط أنباء عن تحشيدات عسكرية متفرقة وتحذيرات متتالية من شيوخ القبائل والمجالس الاجتماعية وقادة عسكريين، إضافة إلى بيانات دولية تنبه من خطر الانزلاق نحو مواجهة مسلحة جديدة.
المجلس الاجتماعي في سوق الجمعة، أحد أبرز المكونات الاجتماعية في طرابلس، أصدر سلسلة من المواقف الرافضة لما وصفها بـ”التسريبات المضللة” التي تسعى لتصوير المجلس خاضعًا لشروط حكومة عبد الحميد الدبيبة. المجلس أكد أن “الأرض والعرض والأرزاق” خط أحمر، وأن شباب المنطقة في حالة تعبئة للدفاع عنها إذا اقتضت الضرورة.
اتهامات متبادلة وتحركات عسكرية
المجلس الاجتماعي اتهم حكومة الدبيبة بمحاولة فرض واقع جديد عبر الاستعانة بميليشيات قادمة من خارج العاصمة، مشيرًا إلى أن ما يجري ليس مجرد خلاف داخلي بل مسعى لـ”نهب الأرزاق وتصفية الحسابات السياسية بالسلاح”.
تزامن ذلك مع تقارير عن انسحاب نحو 50 آلية مسلحة من القره بوللي عائدة إلى مصراتة بسبب خلافات مالية مع ممثلي حكومة الوحدة. مصادر مطلعة كشفت أن الجنود المنسحبين اعترضوا على ما اعتبروه “تمييزًا” في قيمة المكافآت اليومية التي تصرف من ميزانية التنمية، إذ حصلت بعض المجموعات على مبالغ تصل إلى 5000 دينار للفرد، في حين خُصص لآخرين 2000 فقط.
بيانات موحّدة ضد الحرب
في مشهد يعكس حالة القلق الشعبي، اجتمع أعيان ومخاتير المنطقة الغربية أمام مقر البعثة الأممية في جنزور، معلنين رفضهم القاطع لأي محاولة لجر طرابلس إلى حرب جديدة. البيان شدد على أن “الميليشيات تتوافد على المدينة بتحريض من حكومة الدبيبة”، داعيًا المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤولياته وفرض عقوبات على المعرقلين.
كما دعا حراك شباب سوق الجمعة البعثة الأممية إلى رصد الخروقات ومصارحة المجتمع الدولي بـ”حقيقة من يسعى لقتل شعبه”، مؤكدًا أن أبناء طرابلس سيقفون صفًا واحدًا لصد أي قوة مسلحة من خارج العاصمة.
أصوات عسكرية محذرة
قادة عسكريون بارزون داخل المنطقة الغربية أطلقوا تحذيرات مماثلة. أسامة جويلي، آمر المنطقة العسكرية في الجبل الغربي، وصف أي عمل مسلح داخل العاصمة بأنه “محاولة لإفشال العملية السياسية” التي ترعاها البعثة الأممية. من جهته، أكد معمر الضاوي، آمر الكتيبة 55، وجود مرتزقة من دول إفريقية استغلوا الظروف الأمنية خلال الفترة الماضية، متوعدًا بملاحقتهم وتسليمهم للعدالة.
مواقف برلمانية
موقف البرلمان لم يغب عن المشهد. النائب علي بوزريبة وجّه إنذارًا صريحًا إلى من يحاول إدخال الأرتال إلى العاصمة، مؤكدًا أن “طرابلس ليست أرضًا رخوة ولا تُستباح بالحديد والنار”. وأضاف أن من يتوهم أن “400 آلية يمكنها كسر إرادة العاصمة” سيجد آلاف المقاتلين مستعدين للدفاع عنها.
في المقابل، حذّر النائب علي التكبالي من أن تحركات الدبيبة تستهدف الاستفراد بالعاصمة والقضاء على قوة الردع، معتبرًا أن أي مواجهة ستكون “معركة حامية الوطيس” نظرًا لامتداد نفوذ القوة داخل العاصمة وخارجها.
خلفيات التصعيد
المحللون يرون أن التصعيد الأخير مرتبط بتطورات سياسية داخلية وضغوط دولية متشابكة. فالبعثة الأممية كانت قد شددت الأسبوع الماضي على ضرورة الحفاظ على وقف إطلاق النار وتهيئة الأجواء للعملية السياسية. ويعتقد مراقبون أن الحشود العسكرية تمثل محاولة من الدبيبة لإرسال رسائل قوة قبيل أي تفاهمات سياسية قد تهمش دوره.
إلى جانب ذلك، فإن الخلافات المالية بين المجموعات المسلحة أظهرت هشاشة التحالفات التي تعتمد عليها الحكومة، مما يزيد من احتمال حدوث انشقاقات أو حتى مواجهات بينية داخل المجموعات نفسها.
البعثة الأممية والمجتمع الدولي
التصعيد لم يمر دون رد فعل خارجي. بعثة الاتحاد الأوروبي في ليبيا عبّرت عن “قلق بالغ” من التطورات، داعية جميع الأطراف إلى الانسحاب من المناطق المدنية والعودة إلى طاولة الحوار. كما أكدت استعدادها لدعم جهود البعثة الأممية للحفاظ على السلام.
هذا الموقف يعكس مخاوف المجتمع الدولي من أن يؤدي أي انفجار عسكري جديد في طرابلس إلى تعطيل المسار السياسي، بل وربما إعادة البلاد إلى نقطة الصفر، في وقت تحتاج فيه ليبيا إلى استقرار سياسي وأمني لفتح الباب أمام الاستثمارات وإعادة الإعمار.
دور القوى الاجتماعية
المجالس الاجتماعية والأعيان في طرابلس والمناطق المحيطة بها باتت تلعب دورًا متزايد الأهمية، إذ تحاول فرض نفسها كصمام أمان أمام اندفاع الميليشيات. المجلس الاجتماعي في سوق الجمعة، على سبيل المثال، ذكّر بأن المنطقة احتضنت عبد الحميد الدبيبة وأسرته لسنوات طويلة خلال أحداث 2011، رافضًا أي مسعى لتحويل أحيائها إلى ساحة اقتتال.
هذا الخطاب يعكس تمسك السكان بذاكرة اجتماعية ترى في الحروب المتكررة على طرابلس عبئًا مدمّرًا على المدنيين، حيث تضررت البنية التحتية وتراجع الوضع المعيشي بشكل كارثي في كل جولة سابقة من الاشتباكات.
استحقاقات المرحلة القادمة
التحركات الميدانية، بما فيها حشود مسلحة وسيارات إسعاف مرافقة من مصراتة، تكشف أن السيناريو الأسوأ ما يزال قائمًا. إلا أن حالة التعبئة الشعبية الرافضة للحرب، إلى جانب تحذيرات القادة العسكريين وبيانات المجتمع الدولي، قد تشكل عامل ردع مؤقت يمنع الانزلاق إلى مواجهة شاملة.
يبقى السؤال الأساسي: هل يسعى الدبيبة إلى استعراض قوة مؤقتة للضغط في العملية السياسية، أم أن خططه تتجاوز ذلك نحو فرض واقع جديد بالقوة؟ الجواب سيتضح خلال الأسابيع المقبلة، حيث من المقرر أن تكثف البعثة الأممية اتصالاتها مع الأطراف المختلفة لاحتواء التوتر.
طرابلس اليوم تقف على مفترق طرق حساس. إما أن تنجح الأصوات الاجتماعية والسياسية والدولية في احتواء الأزمة وفرض العودة إلى الحوار، أو أن تدفع الأطراف المتصارعة العاصمة إلى دوامة جديدة من العنف. وبينما يواصل الأهالي استعداداتهم لاحتمال الأسوأ، يبقى مصير العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة مرهونًا بمدى قدرة المجتمع الدولي على ممارسة ضغوط حقيقية على الأطراف المعرقلة.
يمكن قراءة الخبر من المصدر من هنا