ليبيا الان

عائلات سورية تعتصم في دمشق للمطالبة بمصير مفقوديها في سجون طرابلس

مصدر الخبر / قناة ليبيا 24

ليبيا 24 – عبدالعزيز الزقم

دمشق.. حيث تتحول أنات الأمهات إلى صرخات مطالبة بالحقوق الضائعة

صمت السلطات يزيد جراح العائلات عمقاً

في ساحة كفرسوسة الدمشقية، حيث تتراقص ذرات الغبار في ضوء الشمس الصباحي، لم تكن الحرارة هي ما يلهب الأجواء، بل كان ذلك الألم الصامت الذي ينبعث من عيون العشرات من الرجال والنساء الذين تجمعوا كجسد واحد. وقفوا أمام مبنى وزارة الخارجية السورية، حاملين في قلوبهم جراحاً لم تندمل، وفي أيديهم لافتات كتبت عليها كلمات تختزل مأساة إنسانية تئن تحت وطأتها مئات العائلات السورية. إنهم أهالي مفقودين سوريين اختفوا في رحلة البحث عن حياة كريمة، لكنهم وجدوا أنفسهم في غياهب السجون في طرابلس أو في قوائم الغرقى والمختفين قسرياً.

لم يكن هذا الاعتصام سوى فصل جديد من فصول معاناة بدأت منذ سنوات، عندما اضطر أبناؤهم إلى مغادرة وطن مزقته الحرب، حاملين معهم أحلاماً بسيطة في أوروبا، لكنهم وقعوا في براثن شبكات التهريب والاحتجاز في ليبيا. اليوم، قررت هذه العائلات أن ترفع صوتها عالياً، مطالبةً الحكومة السورية وحكومة الدبيبة منتهية الولاية والمنظمات الدولية بالكشف عن مصير أبنائها، في خطوة ترمز إلى اليأس من الصمت الرسمي والإهمال الذي طال معاناتهم.

أم يوسف.. من الحزن الفردي إلى قيادة حركة جماعية

في قلب هذا التجمع، تبرز سيدة تبدو عليها ملامح التحدي رغم الحزن الذي يخيم على عينيها. إنها “أم يوسف”، التي تحول حزنها الشخصي على فقدان شقيقها في 31 أكتوبر 2023 إلى وقود لحركة جماعية. تقول بلهجة تختلط فيها العزيمة بالألم: “كانت رحلة أخي أول رحلة نفقد أثرها تماماً. بعدها، بدأت حالات الفقدان تتزايد بشكل مرعب”. لم تكتفِ أم يوسف بالبكاء على فردوسها المفقود، بل بادرت إلى إنشاء مجموعة على تطبيق “واتساب” تجمع العائلات التي تعاني من نفس المأساة.

تضيف: “المجموعة تضم الآن حوالي 200 عائلة، لكن العدد الحقيقي للمفقودين أكبر بكثير. هناك من فقد قبل أخي، ومن فقد بعده”. تحولت هذه المجموعة إلى منصة للدعم النفسي والتخطيط للتحركات المطلبية. وتؤكد أم يوسف أن العائلات تشعر بالتجاهل: “لا يساندنا أحد. نتكل على الله في البحث عنهم. أمهات المفقودين فقدن صبرهن، أردن فعل أي شيء من أجل إيصال الصوت”.

لافتات المعتصمين: كلمات تختزل مأساة أمة

رفع المعتصمون لافتات كتبت عليها مطالبهم بوضوح: “فتح ملف شباب الوطن المحتجزين في السجون الليبية والعمل على إطلاق سراحهم الفوري”، و”إعادة أبنائنا إلى أرض الوطن من سجون الاغتراب”، و”الحرية للسجناء”. هذه اللافتات لم تكن مجرد قطع من القماش، بل كانت صرخات ألم أبطالها أمهات شابت شعورهن من الانتظار، وآباء أنهكهم البحث عن أبنائهم في غرف التحقيق والمستشفيات والسجون.

هادية وفيصل.. رحلة ابنهما نصر الله التي توقفت عند البحر

وسط الحشود، جلست هادية ضاهر وزوجها فيصل شداد، يحاولان كبح دموعهما وهما يرويان قصة ابنهما نصر الله، الذي كان في السابعة عشرة من عمره فقط عندما اختفى هو وابن عمه البالغ تسعة عشر عاماً في 9 أكتوبر 2024. تغادر نصر الله من مطار دمشق إلى بنغازي في مارس من العام الماضي، وساعدته عائلته على تكاليف المعيشة هناك حتى يوم المغادرة.

يتذكر فيصل تلك الليلة المشؤومة: “انطلق نصر وابن عمه مع 39 شخصاً آخرين على متن قارب من مدينة الخمس. في تلك الليلة، رن جواله وبقي يرن كل الليل ولم يجب أحد”. بدأت رحلة البحث اليائسة، حيث تواصل الأبوان مع وساطات سورية، لكنهم قوبلوا بالصدّ. يقول فيصل: “اتهمونا بالتعامل مع سماسرة وتجار بشر، ولم يفعلوا شيئاً”.

لم يستسلم الأبوان، فتواصلا مع الصليب الأحمر في إيطاليا ومنظمات البحث في البحر المتوسط. يضيف فيصل: “شاهدنا معهم كيف يبحثون في البحر، وأكدوا لنا أنهم لم يعثروا على أي قارب في ذلك التاريخ. تابعنا البحث لمدة أربعة أيام ولم نعثر لا على قارب ولا جثث ولا أي أثر”. اليوم، يميل فيصل وهادية إلى فرضية أن ابنهما معتقل في سجن ليبي في طرابلس، لأن كل الأدلة تنفي فرضية الغرق. تقول هادية بنبرة يائسة: “حاولنا مراراً التواصل مع الخارجية والسفارة الليبية ولم نستفد شيئاً”.

امرأة من درعا.. عندما تختفي الأخت والأطفال في رحلة الموت

من بين الحكايات المأساوية، تبرز قصة سيدة من درعا فضلت عدم ذكر اسمها، تروي اختفاء أختها “دلال” وابنيها ذوي التسع والست سنوات في 5 أبريل 2025. كانت دلال قد غادرت دمشق مع أطفالها وأمها وشقيقها في 21 يونيو 2023 إلى ليبيا، حيث حاولوا تدبر أمورهم بعمل أشغال بسيطة مثل غسل الملابس.

تقول المرأة: “أعطانا المهرب معلومات اكتشفنا لاحقاً أنها كاذبة. أخبرنا أنها غرقت وتوفيت، ونصحنا بالتوقف عن البحث”. لكن العائلة لم تستسلم، وتواصلت مع خفر السواحل الإيطالي والليبي. وتكشف عن تفصيل غامض: “شاب قريب لأحد المفقودين يعيش في ألمانيا قام بتتبع موقعهم عبر نظام تحديد المواقع، وتبين أن القارب دخل قليلاً في المياه ثم عاد”. وكان على متن القارب نحو 37 شخصاً من جنسيات مختلفة.

الأمر الأكثر غرابة، كما تروي، هو أن هاتف أختها “فُتح بعد خمسة أيام من الاختفاء، وتم إلغاء حسابات ‘الماسنجر’ لجميع المسافرين بعد شهر ونصف”. هذه التفاصيل تعزز اعتقاد العائلة بأن دلال وأطفالها لم يغرقوا، بل تم اختطافهم واحتجازهم في مكان مجهول. وتختم بحسرة: “أمي هناك في ليبيا، تذهب كل يوم إلى شاطئ قرقارش تبحث عن أثر لأختي وأطفالها”.

شابة من درعا.. أخ مفقود وغموض يلف مصير ناجين

تتحدث شابة أخرى من درعا عن فقدانها لأخيها “رامي” في 11 ديسمبر 2024. انطلق رامي مع 64 شخصاً، معظمهم سوريون، على متن قارب من جنزور. انقلب القارب، وتم إنقاذ 25 شخصاً بواسطة سفينة تجارية مصرية، وأنقذ خفر السواحل الليبي أربعة آخرين. لكن مصير الباقين لا يزال مجهولاً.

تتساءل الشابة بمرارة: “أين هم؟ تواصلنا مع كل الجهات، مع الهلال الأحمر والصليب الأحمر وسفن الإنقاذ، وجميعهم نفوا انتشال أي جثث. بقينا نبحث عن جثثهم حتى مارس هذا العام دون جدوى”. صوتها يرتعش وهي تقول: “هم مغيبون قسراً. لماذا لا نستطيع التواصل معهم؟ كيف حالهم؟ هل هم مرضى؟ هل يأكلون؟ أبسط حقوقنا أن نعرف مصيرهم”. وتكشف أن هذا الاعتصام هو الخامس من نوعه، لكن لم يخرج أي مسؤول لمواجهتهم بشكل جدي. “لماذا يتجاهلوننا؟”، تسأل دون أن تجد إجابة.

تقارير حقوقية.. كشف الانتهاكات المنظمة في ليبيا

لا توجد معاناة هذه العائلات بمعزل عن تقارير المنظمات الحقوقية التي توثق انتهاكات ممنهجة بحق المهاجرين في ليبيا. ففي سبتمبر، كشفت منظمة “ميديتيرانيا سيفينغ هيومان” الإيطالية عن تورط حكومة طرابلس في تهريب المهاجرين عبر البحر المتوسط. وتحدث تقارير سابقة عن مراكز احتجاز سرية تديرها عصابات متاجرة بالبشر، حيث يتعرض المحتجزون للتعذيب والابتزاز.

وأفاد مهاجرون سوريون سابقون بأن جنسيات معينة، مثل السوريين، تتعرض للاستغلال أكثر من غيرها لأنها تمتلك جاليات في الخارج يمكنها دفع فديات. هذه التقارير تؤكد روايات العائلات وتضفي عليها مصداقية أكبر، لكنها تزيد من إحباطهم بسبب صمت المجتمع الدولي.

إلى متى ستبقى الصرخات حبيسة الجدران؟

مع غروب الشمس على كفرسوسة، بدأ المعتصمون يتفرقون، حاملين معهم ذات الأعباء التي جاءوا بها، مع إضافة شعور جديد بالإحباط. لقد حاولوا مرة أخرى كسر جدار الصمت، لكن يبدو أن أصواتهم لم تصل بعد إلى من بيدهم حل هذه المأساة. أم يوسف وهادية وفيصل والعشرات غيرهم لن يتوقفوا عن المطالبة بحقهم في معرفة مصير أبنائهم. إنهم يواجهون نظاماً معقداً من التجاهل والبيروقراطية والعنف، لكنهم يعلمون أن قضيتهم عادلة.

السؤال الذي يظل عالقاً في الأجواء: إلى متى ستظل هذه العائلات تنتظر؟ وإلى متى ستظل الحكومات تتجاهل معاناتهم؟ في قاع البحر المتوسط وعلى أراضي ليبيا، هناك العشرات، بل المئات، من السوريين الذين اختفت آثارهم، تاركين خلفهم عائلات تحترق قلوبها شوقاً وحزناً. هذه المأساة ليست مجرد أرقام، بل هي قصص إنسانية تنتظر من يكتب لها نهاية عادلة.

يمكن قراءة الخبر من المصدر من هنا

عن مصدر الخبر

قناة ليبيا 24