ليبيا الان

خلف الجدران الرمادية… رحلة المعاناة في مراكز احتجاز المهاجرين

مصدر الخبر / قناة ليبيا 24

ليبيا 24

تقارير تفضي انتهاكات مروعة ضد مهاجرين في “بئر الغنم”.

في منطقة نائية جنوب غرب طرابلس، تقف مجموعة من المستودعات والأبنية المنخفضة محاطة بأسلاك شائكة. هذا المكان، المعروف محلياً باسم “بئر الغنم”، هو أكثر من مجرد مركز لتجميع المهاجرين غير النظاميين؛ إنه فصـل مظلم في رحلة آلاف البشر الباحثين عن حياة أفضل، تحوله تقارير حقوقية متزايدة إلى سجن مفتوح ترتكب بين جدرانه انتهاكات منهجية بحق من تقطعت بهم السبل. بينما تتبادل حكىمة الدبيبة منتهية الولاية والمنظمات الدولية الاتهامات، يعيش المحتجزون هناك واقعاً إنسانياً مأساوياً، محاصرين بين جحيم التهريب في البحر وصحراء القهر على البر.

البوابة الخلفية لأوروبا.. محطة ليبيا القسرية
لم تكن ليبيا يوماً الوجهة النهائية لأغلب المهاجرين القادمين من دول أفريقيا جنوب الصحراء والقرن الأفريقي وحتى من دول عربية وآسيوية. إلا أن موقعها الجغرافي جعلها المعبر الرئيسي لأولئك الذين يحلمون بالوصول إلى السواحل الأوروبية. ومع انهيار الدولة الليبية وتحولها إلى ساحة صراع بين ميليشيات وحكومات متعددة بعد عام 2011، أصبحت رحلة الهجرة عبر الأراضي الليبية واحدة من أخطر الرحلات في العالم. كثيرون ممن يتم اعتراضهم في البحر المتوسط من قبل خفر السواحل الليبي – بدعم وتدريب أوروبي – ينتهي بهم المطاف في شبكة معقدة من مراكز الاحتجاز المنتشرة في أنحاء البلاد، والتي توصف رسمياً بـ”مراكز التجميع والعودة المؤقتة”. وتشير تقديرات المنظمة الدولية للهجرة إلى وجود آلاف المحتجزين في عشرات هذه المراكز في ظروف لا إنسانية.

“بئر الغنم”.. اسم على مسمى؟
وسط هذه المراكز، برز اسم “بئر الغنم” بشكل لافت في التقارير الإعلامية والشكاوى الحقوقية خلال الآونة الأخيرة. الاسم نفسه يحمل دلالات قاسية، فالبئر قد يوحي بالعمق والاحتباس، والغنم قد يشير إلى القطيع المعزول الذي ينتظر مصيره. المركز، الذي تديره جهات تابعة لـ”جهاز مكافحة الهجرة غير المشروعة” ولكنها تخضع في واقع الأمر لسيطرة جماعات مسلحة، يستقبل مهاجرين يتم إنقاذهم – أو اعتراضهم – في المياه الإقليمية الليبية. وتكمن خصوصية “بئر الغنم” في حجم الكارثة الإنسانية داخله وتنوع جنسيات المحتجزين. فبحسب زيارة حديثة للمجلس الوطني للحريات، يحتوي المركز على ما يقارب 600 مهاجر من جنسيات متعددة أبرزها مصرية ومغربية وتونسية وبنغلاديشية وباكستانية وأفغانية وسورية وعراقية ويمنية، بالإضافة إلى جنسيات أفريقية أخرى. الأكثر إيلاماً أن نسبة كبيرة من هؤلاء هم من القاصرين والأطفال الذين انطلقوا بمفردهم أو انفصلوا عن عائلاتهم.

شهادات من قلب الجحيم.. بين الجوع والعطش والتعذيب
لا تكتمل الصورة المأساوية إلا بشهادات الناجين والمحتجزين أنفسهم. تقارير منظمات مثل “هيومن رايتس ووتش” و”منظمة ضحايا لحقوق الإنسان” الليبية تروي تفاصيل صادمة عن الحياة داخل المركز. الاكتظاظ الشديد هو السمة الأولى، حيث يتكدس العشرات في غرف صغيرة لا تتوفر فيها أدنى شروط التهوية أو النظافة، مما يخلق بيئة خصبة لانتشار الأمراض. وتقول الشهادات إن الطعام المقدم شحيح وغير كافٍ، والمياه النظيفة شبه معدومة، مما يدفع المحتجزين للبقاء في حالة عطش دائم.

لكن أبشع الانتهاكات، بحسب هذه التقارير، هي تلك المتعلقة بالسلامة الجسدية والنفسية. يتعرض المحتجزون للضرب المبرح والتعذيب بشكل منهجي، أحياناً كعقاب جماعي، وأحياناً أخرى كوسيلة للابتزاز. الادعاءات تتحدث عن استغلال المحتجزين في أعمال السخرة خارج المركز وداخله، مثل أعمال البناء، دون مقابل. كما أن التهديد بالاعتداء الجنسي والاغتصاب يظل سيفاً مسلطاً على رقاب الكثيرين، خاصة القاصرين. الآلية الأكثر شيوعاً هي الاتصال بأهل المحتجزين وطلب فدية مالية كبيرة، تصل أحياناً إلى آلاف الدنانير الليبية، مقابل الإفراج عن أبنائهم. هذه الممارسات تحول المركز من منشأة حكومية مؤقتة إلى سوق لتبادل البشر.

الرواية الرسمية: نقص الموارد وإلقاء المسؤولية على السفارات
في المقابل، تقدم الجهات الرسمية رواية مختلفة تركز على الجانب الإداري والتحديات العملية. بعد زيارة “المجلس الوطني للحريات”، وهو هيئة حكومية، للمركز، أقر بوجود “تحديات إنسانية جسيمة”، لكنه حمّل سفارات بلدان المهاجرين والمنظمات الدولية جزءاً كبيراً من المسؤولية. ووفقاً للبيان الرسمي، فإن السبب الرئيسي لطول فترة احتجاز هؤلاء الأشخاص هو “تأخر أو امتناع بعض السفارات عن إصدار وثائق السفر أو استقبال رعاياها”. وأشار المجلس إلى أن حكومة الدبيبة ترسل مراسلات متكررة لهذه السفارات دون استجابة كافية، مما يشكل “عبئاً مضاعفاً على الدولة الليبية”.

كما اشتكى القائمون على المركز للمجلس من “عوائق إدارية ونقص في الموارد وتداخل في الاختصاصات”، مؤكدين في الوقت ذاته على “التزامهم بتأمين المعاملة الإنسانية”. هذه الرواية تحاول رسم صورة لجهة تحاول القيام بواجبها في ظروف صعبة، وتواجه عقبات خارجية وإدارية تعيق عملية الترحيل.

وجهة نظر حقوقية: اتهامات بالتستر والتنصل من المسؤولية
يرى نشطاء حقوقيون أن الرواية الرسمية محاولة للتنصل من المسؤولية الأساسية. يعلق الحقوقي طارق لملوم، على زيارة المجلس قائلاً: “بدل أن يتناول المجلس حقيقة ظروف الاحتجاز والانتهاكات الموثقة، اختار تحميل المسؤولية للسفارات والجهات الدولية، متجاهلاً شهادات عديدة أكدت تعرض المهاجرين لمعاملة غير إنسانية”.

وينفي لملوم ادعاءات عدم تعاون السفارات، مشيراً إلى أن سفارات عدة ومنظمات دولية تتعاون بشكل منتظم مع مراكز احتجاز أخرى في طرابلس مثل “تاجوراء” و”طريق السكة” لترحيل رعاياها. ويشير إلى أن المشكلة الحقيقية في “بئر الغنم” هي “صراع داخلي داخل جهاز مكافحة الهجرة” منذ محاولات إغلاق المركز سابقاً، مما أدى إلى منع المنظمات الدولية والسفارات من الوصول إليه بشكل منتظم، وبالتالي تحويله إلى “ثقب أسود” تنقطع فيه أخبار المحتجزين. ويؤكد أن المسؤولية المباشرة عن أوضاع المحتجزين تقع على عاتق إدارة الجهاز التي يجب أن “تحسم خلافاتها الداخلية وتضمن نقل المحتجزين إلى مراكز رسمية يمكن المراقبة عليها”.

قصص فردية تكشف حجم المأساة الإنسانية
وراء الأرقام والإحصائيات، توجد قصص إنسانية تظهر عمق المعاناة. مثل قصة محمد محمود بدوي، الفتى المصري البالغ من العمر 17 عاماً، المحتجز في “بئر الغنم” منذ أشهر. وفقاً للحقوقي لملوم، فإن عائلة محمد تتلقى اتصالات متكررة من أرقام مجهولة تطالبهم بدفع فدية مالية كبيرة تصل إلى 14 ألف دينار ليبي (ما يعادل حوالي 2600 دولار) مقابل الإفراج عنه. هذه القصة ليست فريدة، بل هي نموذج يتكرر مع العشرات من المحتجزين الذين أصبحوا رهائن في لعبة ابتزاز ممنهجة.

هناك أيضاً قصص لأشخاص من جنسيات بعيدة مثل بنغلاديش وأفغانستان، قطعوا آلاف الأميال طمعاً في مستقبل أفضل، ليجدوا أنفسهم عالقين في صراعات سياسية وميليشاوية لا علاقة لهم بها، بعيدين عن أسرهم دون أي أمل في التواصل أو معرفة مصيرهم. هؤلاء يمثلون الوجه الأكثر قسوة لأزمة الهجرة العالمية، حيث يتحول الإنسان إلى مجرد رقم في ملف متاهة بيروقراطية وقانونية.

بصيص أمل أم إجراءات شكلية؟
في الأيام القليلة الماضية، شهدت بعض التطورات الإيجابية، وإن كانت محدودة. فقد أعلن جهاز مكافحة الهجرة عن ترحيل “عشرات” المهاجرين المصريين عبر منفذ أمساعد البري، كما استقبل مسؤولون في الجهاز مندوباً عن سفارة باكستان لاستلام عدد من رعاياها المحتجزين في المركز. هذه الخطوات، رغم إيجابيتها، تبقى غير كافية أمام حجم الأزمة. فوجود 600 محتجز، بينهم قاصرون، يتطلب عملية ترحيل منظمة ومستمرة بمشاركة جميع السفارات المعنية والمنظمات الدولية.

وتظل الدعوات الموجهة إلى المنظمة الدولية للهجرة (IOM) لتكثيف برامج العودة الطوعية للمهاجرين، وإلى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) للاضطلاع بدور أكبر في حماية طالبي اللجوء المحتجزين في هذه المراكز، هي الأمل الوحيد للكثيرين. لكن فعالية هذه المنظمات تقيدها باستمرار بالتعقيدات الأمنية على الأرض وعدم استقرار السلطات المتعاقبة في ليبيا.

سؤال المساءلة ومستقبل مجهول
تبقى أزمة مركز “بئر الغنم” نموذجاً صارخاً لأزمة إنسانية أوسع في ليبيا والمنطقة. إنها تطرح أسئلة محرجة حول دور المجتمع الدولي، وخاصة الدول الأوروبية التي تدفع بسياسات خارجية تهدف إلى احتواء تدفق المهاجرين على حدودها دون اكتراث كاف بالمصير الإنساني لهؤلاء الأشخاص داخل ليبيا. كما تثير تساؤلات حول إمكانية محاسبة الجهات المسؤولة عن الانتهاكات في ظل بيئة مفككة وغير خاضعة للمساءلة.

مستقبل المئات العالقين في “بئر الغنم” وغيرها من المراكز لا يزال مجهولاً. بينما تستمر المداولات الرسمية وتبادل الاتهامات، يستمر المعاناة اليومية خلف تلك الجدران الرمادية. القضية ليست مجرد أرقام أو تقارير، بل هي اختبار حقيقي لضمير الإنسانية وقدرتها على حماية كرامة الإنسان الأكثر ضعفاً وهشاشة. حتى يتم حل هذه المعضلة بشكل جذري، ستظل “بئر الغنم” وغيرها شاهداً مؤلماً على فصل مظلم من فصول أزمة الهجرة العالمية.

يمكن قراءة الخبر من المصدر من هنا

عن مصدر الخبر

قناة ليبيا 24