انتهت منذ أيام قليلة واحدة من أخطر الأزمات التي عصفت بالقطاع المصرفي في ليبيا. وهي أزمة لم تحدث منذ تأسيس الدولة الليبية الحديثة مطلع خمسينيات القرن الماضي. يُعتبر الصديق الكبير، المحافظ السابق للمصرف، الأكثر شهرة بين من سبقوه، فقد أثار الكثير من الجدل بسبب الأدوار المتعددة التي قام بها وتعدد الحكومات التي ظهرت واختفت وهو باقٍ في مكانه، دون أن يتمكن أحد من الاقتراب منه. في الوقت نفسه، كان يتجاهل القرارات الصادرة من الجهات التشريعية والقضائية والتنفيذية ضده، حتى ظن البعض أنه لن يغادر موقعه إلا إلى قبره!
لقد كانت علاقات المحافظ السابق مع الجناح الشرقي في البلاد بكل مكوناته من أسوأ ما يمكن خلال السنوات الماضية، وقد تخللتها بعض فترات الهدوء المتقطعة والاتصالات غير الرسمية هنا وهناك. منذ قدوم حكومة الوحدة الوطنية في مارس 2021، اصطف المحافظ السابق بكل ثقله خلفها، وفتح لها الخزائن لتمويل برامج وسياسات التنمية التي ظلت مغلقة لسنوات طويلة. رغم سحب الثقة والصراع الذي نشأ بين حكومة الوحدة الوطنية ومجلس النواب في سبتمبر 2021، إلا أن السيد المحافظ استمر في تحالفه الجديد، وظهر في كل مناسبة بجوار رئيس حكومة الوحدة الوطنية في صورة لا تحتاج إلى تعليق.
“لا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة في السياسة، إنما مصالح فقط”، هذه مقولة شهيرة لرئيس وزراء بريطانيا السابق ونستون تشرشل. منذ منتصف العام الماضي، وبعد تشكيل اللجنة المالية العليا برئاسة رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، بدأت تظهر بعض التباينات في المواقف بين المحافظ والحكومة في طرابلس، وبدأت هذه التباينات تتطور حتى وصلت إلى مرحلة الخلافات العلنية في نوفمبر الماضي.
لقد أثبتت الأحداث أن المحافظ السابق كان يجيد دائمًا اللعب على التوازنات، واحتفظ ببعض الخطط في أدراج مكاتبه ليخرجها متى شاء. وجاء الوقت المناسب لفتح باب توحيد المصرف المركزي، وهو مطلب دائم للمؤسسات المالية الدولية، وفي الوقت نفسه حقق إنعطافة تجاه الجناح الشرقي الذي أصبح مركز الثقل السياسي الأهم بما يمثله من وجود مجلس النواب، وقوة عسكرية كبيرة متجانسة، وسيطرة جغرافية واسعة، وأيضًا التحكم في حقول وموانئ النفط، عصب الاقتصاد الليبي.
عجل المحافظ السابق بخطوات بناء الثقة مع أعداء وخصوم الأمس، حيث دعم المصارف التجارية في الشرق بالمليارات ونفذ بعض الترتيبات المالية، وجعل لجنة المالية في مجلس النواب ممرًا إلزاميًا لتنفيذ أي تعهدات مالية. هذا زاد من مكاسب الجناح الشرقي الذي يشهد عملية تحديث وتطوير للبنية التحتية لا يمكن تجاهلها، مما جعل المقارنات تسبب إزعاجًا كبيرًا للقائمين على السلطة في طرابلس.
ونتيجة لبعض الضغوطات، غادر المحافظ طرابلس في منتصف نوفمبر الماضي، ولم يعد إلا في منتصف ديسمبر تحت تعهدات من السفير والمبعوث الأمريكي، الذي أرسل له رسالة طمأنة جعلت الجميع في غرب ليبيا يعيد حساباته معه.
بدأ هذا العام 2024 وأعلن المحافظ السابق سياسته الجديدة الموسومة بالتقشف ضد حكومة الوحدة الوطنية، وأرجأ صرف الميزانية حتى يعتمدها مجلس النواب. مرت الأشهر ثقيلة على حكومة الوحدة الوطنية حتى توقفت مرتبات العاملين بالخارج لأشهر، وازدادت حالة الاستياء مع فرض ضريبة بنسبة 27%.
لم يكن هناك خيار أمام حكومة الوحدة الوطنية وحلفائها في طرابلس إلا مواجهة المحافظ وإخراجه من منصبه، وإلا فإن سياساته ستؤدي عاجلًا أم آجلًا إلى خروجهم من المشهد السياسي. وبعد بحث متأنٍ عن السيناريوهات المناسبة، توصلوا إلى صيغة محفوفة بالمخاطر في حال فشلها، لكنها نجحت في النهاية، ونفذوا الأمر دون حرب أو إراقة دماء في طرابلس.
انتهت هذه الأزمة بتعيين محافظ جديد ونائبه، ويتم الآن اختيار مجلس إدارة كامل بتسوية سياسية ربح فيها بعض الأطراف وخسر آخرون. يُعتبر مجلس النواب والجناح الشرقي عمومًا الرابح الأساسي في هذه الأزمة، فما كان له أن يتركها تمر دون استخدام قوته ونفوذه. كما تُعتبر حكومة الوحدة الوطنية الرابح الأهم في المنطقة الغربية، إذ تخلصت من خصم عنيد شكل نقطة تقاطع لخصوم كُثر يتربصون بها.
ربحت البعثة الأممية أيضًا، ممثلة في السيدة ستيفاني خوري، حيث عززت من مكانتها وقدرتها على إدارة اتصالات فعالة ومؤثرة بين مختلف الأطراف الليبية. وقد أظهرت الأزمة أن المجتمع الدولي لا يملك حاليًا أي خطة أو أجندة جاهزة للتنفيذ في ليبيا، كما أظهرت عجز وفشل التيارات السياسية المناهضة لحكومة الوحدة الوطنية في غرب ليبيا، وعدم قدرتها على خلق واقع سياسي أو عسكري جديد.
كسبت ليبيا شخصية وطنية محترمة في هذه الأزمة، وهو الدكتور محمد الشكري، الذي قدم صورة مشرفة لرجل الدولة الذي يترفع عن كل ما يسيء لتاريخه ووطنه. لا شك أن البلاد مقبلة على فترة من الهدوء والحذر والترقب لما يحدث في المنطقة والعالم، حتى تتضح الصورة بشكل عام. لقد كشفت هذه الأزمة الليبية الكثير من الأمور التي كانت غائبة عن البعض.
الصديق الكبير خرج من المشهد، لكنه ترك خلفه العديد من الألغاز والحكايات التي ستحتاج إلى وقت طويل لكشفها جميعًا. الأيام كفيلة بتوضيح الصورة وإعطاء الخبر اليقين، ولو بعد حين.