كتب أستاذ الاقتصاد السياسي “محمد بلقاسم البرغوثي”: المصارف المركزية وإصدار النقد، مصرف ليبيا المركزي نموذجًا
في عالم الاقتصاد الحديث، لم تعد المصارف المركزية مجرد مؤسسات تطبع النقود وتوزعها، بل أصبحت حجر الأساس في منظومة الاستقرار النقدي والمالي لأي دولة. إن إصدار النقد اليوم لا يعني فقط الأوراق المطبوعة بل يشمل أيضًا “النقد الافتراضي” الذي يتشكل من خلال النظام المصرفي، ويُعرف بالنقد الرأسي والنقد الأفقي.
1)الإصدار الرأسي للنقد، الدولة كمصدر للسيولة
يبدأ خلق النقد من القمة، عندما تقوم الدولة ممثلة في سلطاتها السيادية (وزارة المالية) ببيع العملات الأجنبية المتحصلة من إيرادات التصدير (وفي الحالة الليبية من النفط والغاز ) إلى مصرف ليبيا المركزي بسعر صرف رسمي( بدون الرسم الضريبي). هذا البيع يُحوّل إلى دنانير تُودع في حسابات الخزانة العامة لدى المصرف المركزي، وتشكل ما يُعرف بالنقد الرأسي.
مصرف ليبيا المركزي، كمصدر وحيد للإصدار النقدي، يقوم بناءً على هذه العملية بإعادة تدوير هذه الدنانير من خلال آلية الإنفاق العام، ما يخلق موجة أولى من السيولة تدخل إلى الجهاز المصرفي عبر المرتبات والتحويلات والميزانيات التشغيلية والتنموية.
2)الإصدار الأفقي للنقد، المصارف التجارية ودورها في التوسع النقدي
النقد الأفقي هو ذلك الذي يُخلق عندما تقوم المصارف التجارية بمنح تمويلات، مما يؤدي إلى زيادة في عرض النقود والكتلة النقدية المتداولة. في الأنظمة الاقتصادية المستقرة، يتوسع هذا النقد عبر قروض استهلاكية أو استثمارية حقيقية تموّل نشاطًا إنتاجيًا يُسهم في النمو ويولّد ثروة تعوّض التضخم الناتج عن التوسع النقدي.
لكن في الحالة الليبية، لا يُمكن تطبيق هذا النموذج الكلاسيكي بحذافيره. إذ إن حجم القروض الاستهلاكية الممنوحة للأفراد ضئيل نسبيًا، وأغلب التمويلات التي منحتها المصارف التجارية لم تذهب لتمويل مشاريع إنتاجية أو استهلاكية، بل وُجّهت في الغالب لتمويل السلطات التنفيذية عبر شراء سندات الخزانة او تمويلها بقروض بدون سندات باعتبار ان سندات الخزانة مربوطة بأجل استحقاق.
هذه القروض والسندات مثّلت أداة لتمويل العجز في الميزانية العامة، مما يعني أن التوسع النقدي تم عبر الدولة وليس عبر القطاع الخاص، أي إن التوسع تم في اتجاه رأسي جديد ولكن هذه المرة من داخل الجهاز المصرفي.
وبهذا المعنى، فإن ما يُعرف بالنقد الأفقي في ليبيا كان هو الآخر انعكاسًا لعجز في ضبط الإنفاق العام وليس نتيجة طلب حقيقي في السوق على التمويل أو استثمار خاص واسع.
3)التمويل بالعجز وتحديات الاستقرار النقدي
هذه البنية جعلت من مصرف ليبيا المركزي الطرف الأكثر ضغطًا عليه في المعادلة الاقتصادية. فهو مطالب بالحفاظ على الاستقرار النقدي، بينما يواجه ضغوطًا مستمرة من الحكومة لتمويل عجزها. هذا التمويل يتم عادة من خلال منح قروض أو إصدار سندات يتم شراؤها من قبل المصارف التجارية، التي تقوم لاحقًا باستخدامها كأصول لتوسيع ميزانياتها وتوليد سيولة جديدة( المقصود بسيولة هو الودائع تحت الطلب أو نقود ورقية وليس نقود ورقية فقط).
لكن هذه السيولة لا تقابلها زيادة في السلع أو الخدمات، ما يولّد ضغطًا تضخميًا، ينعكس في نهاية المطاف على أسعار الصرف ومستوى الأسعار في السوق المحلي.
4)دور مصرف ليبيا المركزي في التوازن
رغم هذه التحديات، يمكن القول إن مصرف ليبيا المركزي قد قام بأداء الحد الأدنى من دوره في الحفاظ على الاستقرار النقدي، خاصة في ظل غياب دور فعّال للسلطات المالية والتشريعية في كبح جماح العجز المالي، وهو ما يستدعي تفهّمًا دقيقًا لتعقيد مهمته.
فهو ليس مسؤولًا فقط عن ضبط أسعار الصرف أو إدارة الاحتياطيات، بل مطالب كذلك بأن يتدخل لتخفيف حدة الأزمات التي تُخلق خارج نطاق اختصاصه، من خلال أدوات نقدية محدودة، دون التسبب في انهيار القدرة الشرائية للدينار أو استنزاف الاحتياطي الأجنبي.
5)الحاجة إلى تنسيق السياسة النقدية والمالية
إن نموذج مصرف ليبيا المركزي يُبرز الحاجة الماسة إلى تنسيق أكبر بين السياسة النقدية والسياسة المالية، وعدم تحميل جهة واحدة تبعات أخطاء مؤسسات أخرى. فتوسيع النقد يجب أن يكون محكومًا بسقف الإنتاج والقدرة الاستيعابية للاقتصاد، لا بالضغط السياسي أو الحاجة اللحظية للصرف العام.
كما أن إصلاح النظام النقدي لا يتم فقط بإيقاف الطباعة أو تجميد الحسابات، بل يبدأ من ضبط المالية العامة ومنح الاستقلال الحقيقي للسلطة النقدية، في إطار رؤية اقتصادية متكاملة تستند إلى الشفافية والانضباط المالي.
يمكن قراءة الخبر من المصدر من هنا