في الأروقة المتوترة للمشهد السياسي، تدور هذه الأيام معركة جديدة بين أطراف السلطة، ليس على الحكم أو السيطرة العسكرية كما جرت العادة، بل على قلب المؤسسات المالية في البلاد، وفي مقدمتها مصرف ليبيا المركزي. تطورات متلاحقة شهدها هذا الملف بدأت برفع الصديق الكبير، محافظ مصرف ليبيا المركزي، دعوى قضائية ضد رئيس وأعضاء المجلس الرئاسي، متهماً إياهم بإصدار قرارات تتعلق بتعيين محافظ جديد ومجلس إدارة جديد للمصرف “بالمخالفة للقانون”. خطوة الكبير جاءت في خضم اشتعال الخلافات السياسية التي تنذر بمزيد من الانقسامات في بلد لم يعرف الاستقرار منذ أكثر من عقد.
لم يكن قرار الصديق الكبير بمقاضاة المجلس الرئاسي إلا بمثابة فصل جديد في الأزمة الممتدة التي تعيشها ليبيا بين أطراف الصراع. الكبير يرى أن أعضاء المجلس الرئاسي، بشخصياتهم وأسمائهم، شركاء في كل الجرائم التي وقعت على المصرف المركزي وموظفيه. ويبدو أن الاتهامات تتجاوز المسائل القانونية لتتداخل مع الاعتبارات السياسية والاقتصادية التي تزيد المشهد تعقيداً.
فمن جانبه، أصدر مصرف ليبيا المركزي بياناً عبر موقعه الإلكتروني ندد فيه بما وصفه بالممارسات “الإجرامية” التي يتعرض لها موظفو المصرف وأسرهم. البيان أكد على استمرار اقتحام المصرف لليوم الرابع على التوالي من قبل بعض الأجهزة الأمنية التي تسعى لإجبار الموظفين على مباشرة أعمالهم بالقوة، مما يهدد سلامتهم. هذا البيان يعكس مدى التوتر الذي يعصف بأهم مؤسسة مالية في البلاد، والتي تعتبر بمثابة القلب النابض للاقتصاد الليبي.
التصريحات لم تتوقف عند حدود الصديق الكبير أو بيان المصرف المركزي، فقد خرج موسى فرج، عضو مجلس الدولة، بتصريحات مهمة، مشيراً إلى أن الأزمة الحالية المتعلقة بالمصرف كان يمكن تفاديها لو التزم مجلس النواب بالاتفاق السياسي. فرج أشار إلى أن الجدل القائم اليوم حول المصرف المركزي ومواقف الأطراف المختلفة يعود في جذوره إلى انعدام التوازن في توزيع الإيرادات والاختلافات الجهوية المستمرة منذ أكثر من عشر سنوات.
من جهة أخرى، عبد الرزاق العرادي، عضو ملتقى الحوار السياسي، انتقد بشدة قرارات المجلس الرئاسي، واصفاً إياها بالمنعدمة، وأكد أن تعيين محافظ جديد يجب أن يتم وفقاً للتشريعات النافذة. العرادي يرى أن المجلس الرئاسي تجاوز صلاحياته بشكل غير دستوري، وأن هذا الأمر سيؤدي إلى تداعيات خطيرة على الاقتصاد والمواطن الليبي، خاصة في ظل تهديدات الحكومة الليبية برئاسة أسامة حماد بإيقاف النفط.
الوضع الراهن يضع الاقتصاد الليبي في مهب الريح، حيث أن استمرارية الانقسام داخل المصرف المركزي قد تؤدي إلى تراجع الثقة في المؤسسات المالية الليبية وتدهور الاقتصاد. محمد قشوط، الناشط والمحلل السياسي، انتقد بشدة عدم تحرك النائب العام لإيقاف ما وصفه بجريمة “سطو” على أكبر مؤسسة مالية في ليبيا، محذراً من أن عزلة دولية ستتعرض لها البلاد في حال استمرار هذا الوضع المتدهور.
أما من الجانب الاقتصادي، فقد حذر الخبير الاقتصادي سليمان الشحومي من أن الإدارة الجديدة للمصرف المركزي تطالب المصارف التجارية بدفع مرتبات الموظفين من الودائع الموجودة لديها، وهو أمر غير ممكن في ظل أزمة السيولة التي تعصف بالمصارف. الشحومي أشار إلى أن الوضع الحالي قد يؤدي إلى تفاقم الأزمة المالية، خصوصاً مع استمرار السياسات العشوائية للمصرف المركزي وعدم وجود رؤية واضحة لحل الأزمة.
في ظل هذا المشهد المعقد، يرى بعض المحللين أن الحل يكمن في الالتزام بالاتفاق السياسي ودعوة جميع الأطراف للجلوس إلى طاولة الحوار. عضو مجلس النواب جبريل اوحيدة أشار إلى أن مجلس النواب كان دائماً يعمل على التوافق للوصول إلى حلول سياسية واقتصادية، لكنه ألقى باللوم على “سلطة الأمر الواقع” في طرابلس لعرقلتها هذه الجهود.
وفي النهاية، تبقى الأزمة مفتوحة على كل الاحتمالات. فإما أن تجد الأطراف المتصارعة صيغة توافقية تضمن للمؤسسات المالية الاستقرار اللازم لتحقيق التنمية الاقتصادية، أو أن يستمر الصراع الذي سيؤدي حتماً إلى مزيد من التدهور والانقسام. وبالرغم من كل ذلك، يبقى الأمل معلقاً على جهود المخلصين من أبناء الوطن لإيجاد مخرج يضمن لليبيا الاستقرار والأمن ويضعها على طريق التعافي الاقتصادي.