في خضم الأحداث المتسارعة التي تشهدها ليبيا، تتوالى التقارير الأممية التي تكشف عن خروقات متكررة للقرارات الدولية، وذلك في وقت لا تزال فيه ليبيا تبحث عن استقرار ضائع في خضم نزاعات داخلية وخارجية. ومن بين تلك التقارير التي أثارت جدلاً واسعاً، يبرز تقريرا الأمم المتحدة لعامي 2021 و2023 اللذان يكشفان عن دور تركيا في تعميق الأزمة الليبية، عبر شركة “سادات للاستشارات الدفاعية الدولية”، التي تم اتهامها بخرق حظر الأسلحة المفروض على ليبيا منذ عام 2011.
أظهر تقريرا الأمم المتحدة، اللذان تناولا بالتفصيل خروقات شركة “سادات“، أن الشركة التركية التي تأسست بدعوى تقديم الاستشارات الدفاعية، قد تجاوزت دورها المعلن، لتقوم بإرسال خمسة آلاف مقاتل سوري من المرتزقة إلى ليبيا لدعم حكومة الدبيبة منتهية الولاية الحكومة التي، على الرغم من انتهاء ولايتها الرسمية، لا تزال تحتفظ بوجودها في طرابلس، وذلك بفضل الدعم التركي المستمر.
التورط التركي في الأزمة الليبية لم يقف عند حدود الدعم السياسي أو المادي، بل تجاوز إلى تقديم دعم لوجيستي وعسكري واسع النطاق، شمل إرسال أسلحة ومعدات عسكرية وطائرات بدون طيار، مثل “بيرقدار تي بي 2″، التي تم رصدها في غرب ليبيا. في هذا السياق، يبرز التقرير الأممي لعام 2021 الذي أشار إلى أن تركيا خرقت الحظر الدولي على الأسلحة بطرق متعددة، منها نقل خمسة آلاف مدفع إلى ليبيا عبر السفينة “إسبيرانزا”، إضافة إلى مركبات كيربي التكتيكية وطائرات مسيرة.
شركة “سادات” التركية، التي تواجه اتهامات بتجنيد المرتزقة وتقديم الدعم اللوجيستي والعسكري، نفت بدورها تلك الاتهامات جملة وتفصيلاً. في تصريح للكاتب التركي المعارض صايغي أوزتورك، قال رئيس الشركة مليح تانريفردي: “الاتهامات الواردة في التقارير الأممية لا أساس لها من الصحة. طُلب منا الرد خلال 30 يوماً، وأجبنا بأنه ليس لدينا أي نشاط في ليبيا”. هذه التصريحات لم تكن كافية لإقناع الكثيرين، خاصة في ظل تراكم الأدلة والشهادات التي تؤكد تورط الشركة في الأزمة الليبية.
التدخل التركي في ليبيا، الذي بدأ تحت ستار دعم حكومة الوفاق السابقة، تحول مع مرور الوقت إلى وجود عسكري دائم. تركيا، التي وقعت مذكرة تفاهم مع حكومة الوفاق للتعاون العسكري والأمني في نوفمبر 2019، تمكنت من بسط نفوذها على قواعد برية وجوية وبحرية في ليبيا. هذا الوجود المستمر، الذي تبرره أنقرة بتدريب القوات الليبية، يعتبره العديد من المراقبين احتلالاً مقنعاً يستغل الضعف السياسي والعسكري لحكومة الدبيبة الحالية.
فيما يتجاوز الجانب العسكري، يتوقع العديد من الخبراء أن يكون للتدخل التركي في ليبيا تداعيات قانونية وسياسية خطيرة. على الرغم من أن تقارير الأمم المتحدة لا تمتلك سلطة فرض عقوبات مباشرة، إلا أن استخدامها كأدلة في محاكم دولية مثل المحكمة الجنائية الدولية قد يضع تركيا في موقف حرج. التحذيرات من عواقب التدخل الأجنبي في ليبيا، التي أطلقها عدد من خبراء الأمم المتحدة في تقارير سابقة، تؤكد أن تصعيد النزاع الليبي وتقويض الحلول السلمية هما نتيجة حتمية لهذا التدخل.
مع استمرار الخروقات والتدخلات الأجنبية، يظل الوضع الليبي معقداً ومفتوحاً على كل الاحتمالات. الخلافات الداخلية، المدعومة بأجندات خارجية، تضع ليبيا أمام مستقبل غامض، حيث يبقى السؤال الأهم: هل ستتمكن البلاد من تجاوز هذا النفق المظلم والوصول إلى شاطئ الاستقرار، أم أن القوى المتصارعة ستواصل استغلال الساحة الليبية لتحقيق مصالحها الخاصة؟ الإجابة عن هذا السؤال ستحدد مصير ليبيا لعقود قادمة، في وقت يبدو فيه أن السلام لا يزال بعيد المنال.
في ظل هذه التطورات، لا يمكن إلا أن نطرح سؤالاً محورياً: إلى متى ستستمر القوى الإقليمية والدولية في العبث بمصير الشعب الليبي؟ وأين دور المجتمع الدولي في وضع حد لهذه التدخلات التي تزيد من تعقيد الأزمة؟ إن مستقبل ليبيا لن يكون مستقراً إلا بإرادة شعبها ودعم حقيقي من المجتمع الدولي لتحقيق السلام والاستقرار بعيداً عن الأجندات الخارجية.