أزمةمصرف ليبيا المركزي تتطور بشكل متسارع، مما يثير مخاوف عميقة لدى الشعب الليبي والمجتمع الدولي. هذه الأزمة، التي قد تبدو في ظاهرها إدارية أو مالية، تتجاوز هذا النطاق لتصل إلى قلب حياة المواطنين الليبيين وامتدادًا إلى دول الجوار، وعلى رأسها تونس.
لم يعد مصرف ليبيا المركزي يوزع خطابات الاعتماد الضرورية لاستمرار عمليات الاستيراد، وهي ركيزة أساسية للمستوردين الليبيين لدفع مستحقات مورديهم. مع توقف هذه الإجراءات، أصبحت ليبيا مهددة بانقطاع التزود بالغذاء والدواء، ما يهدد بحرمان نحو 7 ملايين ليبي من السلع الأساسية. إن الاعتماد على الاستيراد أصبح أمرًا حيويًا لدولة دمرتها الحروب والصراعات الداخلية، وما يزيد الطين بلة هو غياب أي حلول فعلية في الأفق القريب.
لا تقتصر انعكاسات الأزمة على ليبيا وحدها، بل تتسع لتشمل الجارة الأقرب تونس، التي تعتمد بشكل كبير على السوق الليبية لتصدير سلعها. تشكل ليبيا السوق الخامس لتونس، حيث تستورد الأخيرة نحو 39% من الناتج المحلي التونسي. هذا التبادل التجاري الذي استمر لعقود أصبح اليوم مهددًا بانهيار كامل بسبب الانسداد المالي الذي يعيشه مصرف ليبيا المركزي.
الشركات التونسية التي تعتمد بشكل كبير على الصادرات إلى ليبيا، وعددها يقدر بـ 1200 شركة، تواجه اليوم خطر الخسارة والإغلاق. هذه الشركات أصبحت تعيش حالة من القلق والترقب، إذ أن استمرار الأزمة سيؤدي إلى انهيار تلك الشراكة الاقتصادية الحيوية بين البلدين.
أمام هذا المشهد المتأزم، لم يكن هناك بد من تدخل المجتمع الدولي. دخلت الأمم المتحدة على خط الأزمة، محاولة التوسط بين الأطراف المتصارعة في ليبيا. الصراع للسيطرة على مصرف ليبيا المركزي هو صراع سياسي بامتياز، ويبدو أنه جزء من الصراع الأكبر على النفوذ في ليبيا. لكن، في النهاية، هذا الصراع يهدد الشعب الليبي بالمزيد من المعاناة.
الوساطة الأممية قد تكون الحل الوحيد في هذه المرحلة لتخفيف حدة التوتر وإعادة استقرار القطاع المالي الليبي، الذي ينعكس تأثيره المباشر على كل من تونس وليبيا.
في طرابلس، يعيش المواطنون حالة من القلق المتزايد. السوق أصبح شبه مغلق بين عشية وضحاها، والأسعار بدأت ترتفع بشكل غير مسبوق. السلع الأساسية التي يعتمد عليها الناس بشكل يومي أصبحت نادرة، وكل ذلك بسبب توقف خطابات الاعتماد التي تعيق استيراد تلك السلع من الخارج.
الوضع في طرابلس لم يعد مقتصرًا على شح السلع فقط، بل تعدى ذلك إلى أن يصبح الوضع الاقتصادي هشًا، مما يجعل الأزمة تبدو وكأنها أزمة دائمة قد لا تنتهي في القريب العاجل. الحكومة الليبية تبدو عاجزة عن إيجاد حلول، وهذا يزيد من مخاوف الناس.
في تونس، الوضع ليس أقل خطورة. أرباب الأعمال في تونس باتوا يشعرون أنهم رهائن لأزمات سياسية وجيوسياسية تتجاوز حدود بلادهم. السوق الليبية التي كانت ملاذًا آمنًا للصادرات التونسية أصبحت اليوم شبه مغلقة، مما يعني أن تلك الشركات باتت مهددة بخسائر مالية جسيمة.
توقف خطابات الاعتماد من مصرف ليبيا المركزي أدى إلى إغلاق الأبواب أمام الشركات التونسية التي تعتمد على بيع منتجاتها في ليبيا. هذه الشركات باتت في موقف لا تحسد عليه، حيث أنها لا تستطيع إيجاد بدائل بسرعة، مما يجعلها تواجه أزمة مالية خانقة.
الصراع حول مصرف ليبيا المركزي هو جزء من الصراع الأوسع على موارد ليبيا، وعلى رأسها النفط. الموارد النفطية التي كانت تشكل الركيزة الأساسية للاقتصاد الليبي أصبحت اليوم ساحة للصراع بين الفصائل المختلفة. هذه الموارد هي التي تمول المصرف المركزي، وبالتالي فإن أي خلل في توزيع هذه الموارد يؤدي مباشرة إلى تفاقم الأزمة المالية.
في ظل غياب حل سياسي شامل للصراع الليبي، يبدو أن الأزمة الاقتصادية لن تجد طريقها للحل في المستقبل القريب. هذا الانسداد في المصرف المركزي ليس إلا عرضًا لمشكلة أكبر، تتعلق بالسيطرة على ثروات البلاد وتقاسم السلطة.
الأزمة بين ليبيا وتونس تلقي بظلالها على مستقبل العلاقات بين البلدين. إن الاعتماد المتبادل بين البلدين هو ما جعل التعاون بينهما أمرًا حتميًا، لكن في ظل الأوضاع الحالية، يبدو أن هذا التعاون قد يتعرض لانتكاسة خطيرة. على الرغم من كل المحاولات لحل الأزمة، يبقى السؤال المطروح: هل يمكن لليبيا أن تستعيد استقرارها المالي؟ وهل يمكن لتونس أن تنجو من التداعيات الاقتصادية الخطيرة التي قد تنتج عن هذا الانهيار؟
الأزمة ليست مجرد أزمة مصرفية، بل هي أزمة سياسية، اقتصادية، وجيوسياسية تتشابك فيها المصالح الإقليمية والدولية. إذا لم يتمكن الليبيون من إيجاد حل سريع، فإن العواقب ستكون وخيمة ليس فقط على ليبيا بل على كل المنطقة.