في خضم التعقيدات السياسية والاقتصادية التي تعصف بليبيا، تبرز مجددًا أهمية الدور الذي تلعبه المؤسسات المالية في رسم مسار البلاد نحو الاستقرار. ومن بين هذه المؤسسات يأتي مصرف ليبيا المركزي في مقدمة الجهات التي تعاني من ضغوط متزايدة، سواء من الداخل أو الخارج. ومن هذا المنطلق، جاءت تصريحات ربيعة بوراس، رئيسة لجنة التنمية المستدامة بمجلس النواب، لتسلط الضوء على ما تواجهه هذه المؤسسة من تحديات، ولتؤكد على الحاجة الماسة إلى دعم دولي تقني يهدف إلى استعادة توازن المصرف وحياده المفقود.
في أغسطس الماضي، اتخذ المجلس الرئاسي سلسلة من القرارات التي وصفت بأنها فردية وغير مدروسة، وهو ما أثار حالة من القلق بين الأوساط المالية والاقتصادية في البلاد. وبحسب بوراس، في تصريحات صحفية رصدتها “أخبار ليبيا 24” فإن هذه القرارات لم تؤدِ فقط إلى زعزعة الثقة في المصرف المركزي، بل جعلت من استعادة استقلاليته هدفًا يتطلب جهودًا مضاعفة. فالمؤسسة المالية، التي من المفترض أن تكون ركيزة للاستقرار الاقتصادي، باتت تواجه تحديات ضخمة في ظل تفاقم الأزمات المالية العالمية والمحلية.
إن استعادة الثقة في المصرف تتطلب خطوات ملموسة، خاصة فيما يتعلق بتعزيز مهنية المؤسسة وإعادتها إلى مسارها الصحيح. وبحسب بوراس، فإن العدالة في توزيع الاعتمادات المالية والتمويلات المخصصة لبرامج التنمية تمثل أولوية، نظرًا لأنها تمس مباشرة حياة المواطن الليبي اليومية، بما في ذلك حاجته الملحة إلى الغذاء والدواء والخدمات الأساسية الأخرى.
وفي خضم هذه التحديات، ترى بوراس أن الدعم الدولي يمكن أن يلعب دورًا مهمًا في تعزيز دور المصرف المركزي الليبي. لكنها تؤكد على أن هذا الدعم يجب أن يقتصر على المساعدة الفنية دون أن يتحول إلى فرض سياسات اقتصادية قد تحرم الليبيين من حقوقهم السيادية. إن الشريك الأجنبي، بحسب قولها، عليه مسؤولية دعم المصالح الليبية، لكن دون تجاوز حدود هذه الشراكة لتصبح عبئًا على الاقتصاد الوطني.
هنا تبرز مسألة حساسة وهي ضرورة الحفاظ على الإرادة الوطنية في ظل التدخلات الخارجية المتزايدة. فبينما تحتاج ليبيا إلى الخبرات الدولية لإعادة بناء مؤسساتها، لا يمكن السماح بأن تصبح هذه الشراكات وسيلة لتهميش القرار الليبي أو تقييد السيادة الاقتصادية للدولة.
من جهة أخرى، لا يمكن إغفال الدور الذي يلعبه المصرف المركزي في تحقيق الاستقرار ليس فقط على المستوى الاقتصادي، بل السياسي أيضًا. فالتوازن المالي يشكل عاملاً حاسمًا في تحديد مدى قدرة الدولة على الصمود أمام التحديات الداخلية والخارجية. وبالنظر إلى الأزمات العالمية المتلاحقة، من الحروب إلى الأزمات الاقتصادية، تجد ليبيا نفسها في موقع حرج، حيث يتطلب الحفاظ على الاستقرار المالي جهدًا كبيرًا وتعاونًا دوليًا فعّالًا.
وفي هذا السياق، تشير بوراس إلى أن المصرف المركزي يجب أن يتمتع باستقلالية تامة، بعيدًا عن الضغوط السياسية والاقتصادية الداخلية، لتتمكن البلاد من مواجهة التحديات المستقبلية. وهذا لن يتحقق إلا من خلال تبني سياسات شفافة وعادلة تضمن توزيع الموارد بشكل متوازن، بما يلبي احتياجات كافة المناطق الليبية دون تمييز.
في هذا الإطار، تؤكد بوراس أن المصرف المركزي بحاجة إلى خطة شاملة لإعادة بناء دوره في الاقتصاد الليبي. هذه الخطة يجب أن تعتمد على إصلاحات جذرية، تضمن تعزيز الشفافية وتطوير الأداء المالي، مع التركيز على برامج التنمية التي تساهم في تحسين معيشة المواطن الليبي. كما يجب أن تكون هناك متابعة دولية، لكن دون أن تتحول إلى وصاية على القرارات الاقتصادية الليبية.
إن استعادة الثقة في المصرف المركزي لا تتطلب فقط إعادة بناء المؤسسة من الداخل، بل تحتاج إلى التزام قوي من الشركاء الدوليين في تقديم الدعم الفني والاقتصادي دون التدخل في الشؤون الداخلية. فليبيا، برغم كل التحديات، ما زالت قادرة على تحقيق الاستقرار إذا ما توفرت الإرادة الوطنية والدعم الدولي المتوازن.
في ختام تصريحاتها، تشدد بوراس على أن الإرادة الوطنية هي الركيزة الأساسية التي يجب أن تُبنى عليها كافة الجهود الرامية إلى إصلاح المصرف المركزي الليبي. فبينما تلعب الشراكات الدولية دورًا هامًا في تقديم الدعم الفني، يبقى على الليبيين أن يتحملوا المسؤولية الكاملة في توجيه مسار بلادهم نحو الاستقرار. إن المصرف المركزي، بمكانته كمؤسسة سيادية، يجب أن يكون بعيدًا عن التسييس، ليتمكن من أداء دوره في خدمة الاقتصاد الوطني، وتحقيق العدالة المالية التي ينتظرها كل ليبي.