في ليلة هادئة تحولت إلى لحظة كارثية، غرقت السفينة التجارية المصرية “دانا” قبالة شواطئ ليبيا وهي تحمل 3200 طن من الأسمنت، مسجلة واحدة من أكبر الحوادث البحرية في المنطقة. الرحلة التي بدأت بهدوء من ميناء أبو قير المصري واجهت كابوسًا من الأمواج العاتية والرياح القوية، مما أودى بحياة بعض أفراد الطاقم بينما نجا آخرون بفضل الجهود البطولية من سكان وسلطات المنطقة.
بدأت السفينة “دانا” رحلتها من ميناء أبو قير في مصر، في إطار مهام تجارية معتادة، وطاقمها على دراية كاملة بتقلبات الطقس في هذا الشهر من السنة. كان من المفترض أن تكون الرحلة سلسة، لكن الرياح غير المتوقعة والأمواج المرتفعة التي وصلت إلى أكثر من سبعة أمتار اجتاحت السفينة، محولة الرحلة إلى مغامرة محفوفة بالمخاطر. حاول الربان السوداني، عبدالله بالحسن، بحكمة استعادة السيطرة على السفينة وتوجيهها إلى منطقة آمنة، لكن الطبيعة كان لها رأي آخر؛ إذ انتشرت المياه بشكل سريع عبر أنحاء السفينة، مما أجبر الطاقم على اتخاذ قرارٍ حاسم بالقفز إلى قارب الإنقاذ.
مع اشتداد العاصفة، تسابق الطاقم مع الزمن، واتخذ الربان قرارًا محفوفًا بالمخاطر بالقفز من السفينة إلى قارب الإنقاذ. حمل القارب الأمل الوحيد للنجاة لهم، مجهزًا بوسائل السلامة الأساسية وأدوات الإنذار الضرورية. في مواجهة الأمواج والرياح، بدأ الطاقم التسعة بتوجيه القارب نحو الشاطئ الأقرب، ولكن الرياح القوية دفعتهم نحو صخور الشاطئ، مما جعل الوصول إلى اليابسة أمرًا صعبًا.
أفاد محمد محفوظ علي، الناجي السوري، في تصريحات خاصة لـ “أخبار ليبيا 24” بأن الطاقم حاول الإبحار قدر الإمكان بعيدًا عن مناطق الخطر، ولكن موجة عاتية دفعت القارب نحو الصخور بشكل عنيف. هنا، في ظلام الليل الدامس، تفرقت المجموعة بعد انقلاب القارب، وصارعت الأمواج للحفاظ على حياتها، وقد خسر البعض منهم هذه المعركة.
مع أول خيوط النهار، بدأت المأساة في الكشف عن أبعادها. أفاد الناجون بأنهم تمكنوا بصعوبة من الوصول إلى الشاطئ، حيث صارعوا الأمواج وتمسكوا بالصخور. لقي الربان السوداني حتفه، بينما فقد اثنان آخران من أفراد الطاقم بعد أن اختفوا في عمق المياه، في حين نجح ستة آخرون في النجاة.
كانت قوات الجيش الليبي وحرس السواحل أول المستجيبين لنداءات الاستغاثة، حيث هرعوا لمساعدة الناجين وإحضارهم إلى بر الأمان في مدينة طبرق. ولم تقتصر الجهود على السلطات فحسب، بل ساهم سكان المناطق المحيطة أيضًا في عمليات الإنقاذ، ما يعكس تكاتف المجتمع المحلي مع الأرواح المهددة.
تم إحضار الناجين إلى طبرق، حيث تلقوا الرعاية اللازمة بعد ما شهدوه من أهوال في البحر. فيما تم نقل جثمان الربان السوداني إلى درنة ليتم دفنه هناك في حضور أفراد من الجالية السودانية، في مراسمٍ امتزجت فيها مشاعر الحزن بالفخر بالشجاعة التي أظهرها الربان حتى اللحظات الأخيرة.
الجهود لم تتوقف عند الناجين، إذ واصلت فرق البحث محاولاتها للعثور على المفقودين الآخرين. مع مرور الوقت، بدأت فرص العثور عليهما تتضاءل، ولكن إصرار الفرق العاملة وسكان المنطقة كان كبيرًا، في محاولة لتحقيق أي أمل في العثور عليهما أحياء.
تشير هذه الحادثة إلى حجم التحديات التي تواجهها السفن التجارية، خصوصًا تلك التي تبحر في ظروف غير مستقرة. التقلبات الجوية والأمواج العالية مثلت عوامل تهديد رئيسية، حيث تأتي الأمواج العاتية في المنطقة، خاصة خلال فصل الشتاء، لتشكل اختبارًا حقيقيًا لصمود السفن وتجهيزاتها. الحادث أظهر أهمية توفير مزيد من الحماية البحرية، وتدريب الطواقم على مواجهة المواقف الطارئة.
على الرغم من صعوبة الحادث، فإن الحاجة ماسة إلى تحليل أسبابه وتفادي وقوع حوادث مشابهة مستقبلاً. فقد أشار مختصون في السلامة البحرية إلى ضرورة التأكد من استقرار الأحوال الجوية قبل الإبحار في مواسم التقلبات المناخية. كما يتطلب الأمر تعزيز التعاون الإقليمي والدولي في تدريب فرق الطوارئ وتعزيز فرق الإنقاذ.
أظهرت جهود الإنقاذ، التي ساهم فيها حرس السواحل الليبي وسكان منطقة رأس التين، أروع صور التضامن والتكاتف، حيث لم يتردد أحد في مد يد العون لإنقاذ أرواح عالقة في معركة مع البحر. ساهم أفراد المجتمع في توفير الحماية والرعاية النفسية والصحية للناجين، مشكلين نموذجًا يحتذى به في تقديم المساعدة للمنكوبين.
انتهت رحلة السفينة “دانا” على شواطئ ليبيا تاركةً خلفها درسًا في شجاعة الإنسان أمام الطبيعة، وتعاون المجتمعات في مواجهة الكوارث. لقد تجسدت الروح الإنسانية في أسمى صورها، حيث اختلطت مشاعر الفقد بالأمل، وسجلت شواطئ ليبيا قصة جديدة عن نبل التضحية وإرادة البقاء.
التركيز على الحادث وسرده بهذا الشكل يجلب الانتباه إلى أهمية الأمن والسلامة البحرية، كما يسلط الضوء على شجاعة من جازفوا بحياتهم لإنقاذ الآخرين، ويبقى الحادث نقطة مضيئة في تاريخ العمل الإنساني في المنطقة.