في بيان رسمي، نشر مصرف ليبيا المركزي تفاصيل الإيرادات والإنفاق لشهر أكتوبر 2024، وهو تقرير يعكس جوانب محورية للوضع المالي الراهن في البلاد، ويثير تساؤلات حول الاستدامة الاقتصادية ومدى توازن السياسات المالية في ظل التحديات المستمرة. يبدو أن الإيرادات، التي بلغت حوالي 81.877 مليار دينار، تستند بشكل كبير على عائدات النفط، بينما يتجاوز الإنفاق 77.325 مليار دينار، مما يكشف عن اعتماد كبير على الإيرادات النفطية لتلبية احتياجات الميزانية الوطنية.
ملحوظة: الإيرادات الأخرى تشمل الإيرادات الواردة من مراقبات الخدمات المالية للمدن الليبية مقابل خدمات عامة مثل: مسترجعات، رسوم جوازات، تمليك سيارات، وغرامات.
شكّلت إيرادات مبيعات النفط مصدر الدخل الأكبر، محققةً 67.8 مليار دينار، تلتها إيرادات الإتاوات النفطية بـ11.6 مليار دينار، مما يجعل عائدات النفط الإجمالية تتجاوز 79.4 مليار دينار. تعكس هذه الأرقام الدور المحوري للقطاع النفطي في دعم الاقتصاد الليبي، ورغم الجهود لتعزيز الإيرادات من مصادر أخرى، إلا أن النفط يظل المصدر الأساسي للدخل، مع مساهمات طفيفة من الضرائب والجمارك والاتصالات.
يُظهر البيان أن المرتبات تستحوذ على النصيب الأكبر من الإنفاق الحكومي، بميزانية تصل إلى 48.6 مليار دينار، ما يعكس اعتماد الدولة الكبير على القطاع العام لتوظيف القوى العاملة. وعلى الرغم من محاولة الحكومة تخصيص ميزانيات للقطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم، إلا أن الإنفاق على المرتبات يبقى العبء الأكبر، مما يترك حيزًا محدودًا لتنفيذ مشاريع تنموية مستدامة.
ملحوظة: تشمل الترتيبات المالية للمؤسسة الوطنية للنفط ميزانية استثنائية موزعة على الأبواب الثلاثة، بينما تخص ميزانية الشركة العامة للكهرباء النفقات في الباب الثالث.
حظي قطاع النفط بترتيبات مالية استثنائية خلال عام 2024، استكمالًا للميزانية التي خُصصت سابقًا للمؤسسة الوطنية للنفط. بلغت هذه الترتيبات المالية 6.7 مليار دينار، موزعة على ثلاثة أبواب، هي: المرتبات والنفقات التسييرية والتنمية، مما يعكس الحاجة إلى ضخ استثمارات إضافية للحفاظ على إنتاج النفط وتحسين البنية التحتية المتعلقة به. وفي سياق موازٍ، مُنحت الشركة العامة للكهرباء ميزانية استثنائية بقيمة 3.1 مليار دينار، تهدف إلى تعزيز القدرة الإنتاجية وتقليل الانقطاعات التي يعاني منها المواطنون.
أظهرت القطاعات الحكومية إنفاقًا كبيرًا، حيث تبرز وزارة المالية والدفاع والداخلية بحكومة الدبيبة منتهية الولاية، كأكثر الجهات استهلاكًا للميزانية. وتعتبر وزارة المالية من بين المستفيدين الرئيسيين، إذ بلغ الإنفاق الإجمالي لها والجهات التابعة 22.48 مليار دينار، وهو ما قد يُعزى إلى الحاجة المتزايدة لتغطية النفقات التشغيلية والإدارية. من جانب آخر، أثارت الأرقام المرتفعة المسجلة للإنفاق في قطاعي الدفاع والداخلية بعض الانتقادات، حيث تتجاوز النفقات في هذين القطاعين 7.75 مليار دينار، ما يثير تساؤلات حول الكفاءة المالية وتوزيع الموارد في دولة تعتمد على النفط كمصدر دخل رئيسي.
تجاوزت ميزانية وزارة الصحة بحكومة الدبيبة منتهية الولاية، مع الجهات التابعة لها، 5.9 مليار دينار، موزعة على المرتبات والنفقات والدعم، بينما حظيت وزارة التعليم بمخصصات أقل نسبيًا، رغم أهميتها. تم تخصيص 355 مليون دينار لوزارة التربية والتعليم، و1.9 مليار دينار لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، حيث تشير هذه الأرقام إلى توجه الدولة نحو تعزيز قطاع التعليم، وإن كان بوتيرة أبطأ من القطاعات الأخرى. يمثل هذا التوزيع تحديًا في تلبية احتياجات المواطن من الخدمات الأساسية، لا سيما مع ازدياد الحاجة إلى تطوير البنية التحتية الصحية والتعليمية.
بالإضافة إلى الإيرادات النفطية، ساهمت إيرادات الضرائب بـ1.3 مليار دينار والجمارك بـ131 مليون دينار، كما أضاف قطاع الاتصالات 125 مليون دينار. تم تحقيق إيرادات أخرى بلغت 859 مليون دينار من رسوم الخدمات المالية ومراقبات الخدمات في المدن الليبية. ومع ذلك، فإن هذه الإيرادات تعتبر طفيفة مقارنةً بالإيرادات النفطية، مما يُظهر الحاجة إلى تنويع مصادر الدخل لتقليل الاعتماد على النفط.
بلغت ميزانية الدعم العام حوالي 12 مليار دينار، شملت قطاعات حيوية مثل الوقود والمواد الغذائية. يطرح هذا الحجم الكبير من الإنفاق تساؤلات حول فعالية سياسات الدعم الحالية، ومدى إمكانية تقليل الاعتماد على الدعم العام كإحدى الخطوات لتعزيز الاستدامة المالية. كما يوضح غياب التخصيصات في بند الطوارئ أن هناك محاولة لترشيد الإنفاق، مع إبقاء التركيز على القطاعات الإنتاجية والخدمية، وإن كان ذلك بشكل محدود.
من خلال قراءة متأنية للبيان المالي لشهر أكتوبر 2024، يبدو أن ليبيا تواجه تحديات كبيرة فيما يتعلق بتوازن الإيرادات والإنفاق. يعتمد الاقتصاد بشكل رئيسي على إيرادات النفط، فيما يُستنزف الإنفاق على المرتبات والدعم، ما يشكل عبئًا كبيرًا على ميزانية الدولة. تحتاج ليبيا إلى خطة إصلاح شاملة لتحفيز القطاعات غير النفطية وتعزيز القدرة المالية من خلال تنويع الاقتصاد، وإيجاد توازن حقيقي بين الإيرادات والإنفاق بما يحقق الاستدامة المالية المنشودة.