لطالما اعتُبر النفط العمود الفقري للاقتصاد الليبي، لكنه اليوم بات عنوانًا للفساد وسوء الإدارة، كما يكشف تقرير ديوان المحاسبة لعام 2023. بين الفواتير المكررة، والتكاليف الإضافية، والتعامل مع شركات لا تحمل سجلًا مؤهلاً، تواصل مؤسسة النفط الوطنية إدارة المبادلات النفطية بنظام أشبه بالمقامرة على حساب مستقبل البلاد.
تكرار الفواتير والتكاليف الإضافية
تقرير ديوان المحاسبة يرصد تجاوزات جسيمة في نظام المبادلة، حيث وُجدت فواتير مكررة تُظهر غياب الدقة في إدخال البيانات، إلى جانب تكاليف إضافية بلغت أكثر من 981 مليون دولار. هذه التكاليف تُعد دليلاً على فشل المؤسسة في استغلال البدائل الأفضل، مثل التعاقد المباشر مع المصافي العالمية، مما يزيد من أعباء الخزينة العامة.
شركات مجهولة… وصفقات مشبوهة
الأمر لا يتوقف عند سوء الإدارة، بل يتعداه إلى منح صفقات بمليارات الدولارات لشركات منشأة حديثًا تفتقر لأي خبرة في قطاع النفط. هذه الشركات، التي لا تمتلك مصافي تكرير ولا سجلًا في السوق العالمي، تتولى عمليات المبادلة بطرق ملتوية، مما يُقصي ليبيا عن تحقيق أرباح عادلة.
هامش ربح زهيد لشركات وسيطة
من بين الأمثلة البارزة التي أوردها التقرير، تخصيص شحنات نفط خام لشركة “أولى إنرجي” في دبي. الغريب أن الشركة لا تشارك فعليًا في تحديد العملاء أو الأسعار، بل تحصل فقط على هامش ربح 10 سنتات للبرميل، مما يثير تساؤلات حول جدوى هذا التعاون ودوافعه الحقيقية.
غياب الدور المصرفي وتفاقم المخاطر
ضعف الرقابة المصرفية يمثل حلقة مفقودة في نظام المبادلة. المصارف الليبية لا تلعب أي دور في العمليات التجارية، سواء في تصدير الخام أو استيراد المحروقات، ما يفتح الباب أمام غسل الأموال ويفاقم مخاطر الخطأ والفساد.
بيانات مضللة وصعوبة التدقيق
عدم تطابق البيانات المتعلقة بالفواتير وعدد الشحنات وقيمتها يضيف طبقة أخرى من الفوضى. هذه الأخطاء المتكررة تجعل من الصعب مراقبة العمليات بشكل دقيق، مما يمنح الفاسدين فرصة أكبر لتمرير تجاوزاتهم دون محاسبة.
الشعب يدفع الثمن
بينما تزداد الفواتير فسادًا، يقف المواطن الليبي في طوابير الوقود الطويلة أو يبحث عن لقمة العيش وسط أزمات اقتصادية خانقة. كيف تُهدر مليارات الدولارات، بينما تغيب الحلول لمشاكل الكهرباء، والمياه، والصحة؟
مستقبل مهدد وضرورة الإصلاح
تقرير ديوان المحاسبة ليس مجرد توثيق لتجاوزات الماضي، بل إنذار حقيقي بأن استمرار هذا النهج سيُفقد ليبيا مزيدًا من ثرواتها وسيُعمّق معاناة شعبها. الإصلاح يبدأ بإعادة هيكلة إدارة قطاع النفط، وتطبيق معايير الشفافية، واستبعاد الشركات الوهمية التي لا تقدم أي قيمة مضافة.
خاتمة: بين الحلم والواقع
لطالما حلم الليبيون بنفطهم كوسيلة لتحقيق التنمية والرخاء، لكن الواقع يحوّل هذا الحلم إلى كابوس. على المؤسسات الرقابية أن تتخذ خطوات جادة لمحاسبة المتورطين، وإلا فإن ثروة البلاد ستظل تُستنزف بلا أفق، ويظل المواطن هو الضحية الأكبر.